عبد الوهاب البياتي والطواويس الملوّنة

00:38 صباحا
قراءة 3 دقائق

في العام 1995 أجرى الإعلامي الثقافي الّلامع محمد رضا نصر الله حواراً تلفزيونياً مع الشاعر عبد الوهاب البياتي (1926-1999)، أي قبل رحيله في دمشق بنحو أربع سنوات، وكعادته بدا «أبو علي» كبريائياً وممتلئاً بذاته الشعرية من دون نرجسية ومن دون غرور، وهما الصفتان اللتان كانتا متداولتين أو «جاهزتين» من جانب أعدائه للانقضاض عليه، والتقليل من أهميته الشعرية على الرغم من دوره التجديدي العميق في القصيدة العربية في نهاية أربعينات القرن العشرين، شأنه في ذلك شأن بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة.
عرفت عبد الوهاب البياتي عن قرب، وعلى نحو شبه يومي بين عامي 1995و1997 في العاصمة الأردنية عمان، وعرفت عن قرب أيضاً ذلك الحزن المعتّق في أعماقه حين يصل إلى درجة من البوح الحميم في لحظة عارية صافية، بل هي لحظة صوفية تعيده إلى امرأة كان يحتفظ بصورتها الفوتوغرافية بالأبيض والأسود في محفظة صغيرة، ولولا عمق هذه الصداقة، لما كنت رأيت تلك الصورة، فهو لم يكن يكشف عن بواطن ذاته لأي شخص، لكنه رأى في كاتب هذه السطور صديقاً فيه شيء منه ومن أحزانه الرّاسبة في أعماقه.
أجريت مع البياتي حواراً لمجلة «الشروق» التي كنت أعمل بها، وقد أعطاني موعداً للقائه تحت مبنى كان يسكن فيه في عمان، لننتقل بعد ذلك إلى بيت الصديق عبد الله حمدان في إحدى ضواحي عمّان.
في داخل البياتي طفل كبير ، ولكن لهذا الطفل أظافر إذا ما اقترب منه واحد من أولئك الذين كان يسمّيهم الطواويس «التي تزهو بريشها الاصطناعي»، كما قال في الحوار التلفزيوني مع محمد رضا نصر الله.
قال البياتي في ذلك الحوار أيضاً إنه يعرف الكثير عن الحياة الخفية لبعض المثقفين العرب، وهي حياة يندى لها الجبين، كما قال، وإنه بصدد وضع كتاب يكشف فيه حقائق وبواطن هذه الطواويس، غير أن صاحب «بستان عائشة» رحل قبل أن يكتب هذا الكتاب، أما «عائشة» هذه فهي ذاتها المرأة التي كان يحتفظ البياتي بصورتها الفوتوغرافية في محفظته، وتمر «عائشة» كثيراً في شعره.
قال البياتي وهو صادق مع نفسه، إنه لم يقم بأعمال سياسية  بل إنه شاعر وحسب «شعري أمل وطوق نجاة في هذا اليمّ الذي نحن فيه غرقى»..
تحدث البياتي عن علاقته ببدر شاكر السياب، حيث نشأت بينهما صداقة في بغداد أثناء دراستهما في المعهد العالي: «كنت ذات يوم أتمشّى في حديقة المعهد، عندما التقى بي السياب وقال لي: سمعت أنك تكتب الشعر، وكان يقرأ شعره دائماً عليّ.
قصة علاقة أو صداقة البياتي مع السيّاب معروفة ومدوّنة في أكثر من مصدر، ولكن اللافت هنا أن البياتي وحتى أبناء جيله من شعراء الأربعينات والخمسينات العراقيين والعرب لا يذكرون وربما يتجاهلون شاعراً عراقياً هو شاذل جاسم طاقة (1929- 1974)، كان من جيل السياب والبياتي ونازك الملائكة، لا بل إن هذا الشاعر الذي لا يذكر عند الحديث عن ظهور قصيدة التفعيلة في نهاية أربعينات القرن العشرين هو واحد من روّاد هذه القصيدة .
أرشيفات ثقافية شعرية عديدة هي اليوم في حاجة إلى إعادة قراءة إذا كانت مكتوبة، وفي حاجة إلى إعادة إصغاء واستماع إذا كانت مادة تلفزيونية أو إذاعية، كأن التاريخ الثقافي لقصيدة التفعيلة ناقص، أو لم يُكتب كلّه بالكامل.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"