جمهورية الألف إعلامي

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

نقاشات دارت مع أكثر من وزير إعلام ومسؤولين كبار، في لبنان، أرّقتهم حروب الإعلام والإعلاميين وسلطاتهم الهائلة في لبنان، وعجزوا عن تهدئتهم أومعالجتهم. قال لي وزير إنه سيقرأ قوانين الإعلام في لبنان ليجد الحلول. وأجبته أخيراً أن الإعلام لم يعد قوانين وسلطة رابعة، خصوصاً اليوم في أزمنة العولمة والانفتاح والصحافة الاستقصائية والتواصل الاجتماعي.

بالنسبة لي، لم أترك شاردة وواردة في لبنان إلا وفكّكتها قبل عقدين مع طلابي الجامعيين الذين تسلّموا تباعاً وزارة الإعلام، وآخرهم الوزيران ملحم رياشي، ومي شدياق، وأصدرت مرجعاً بعنوان «الإعلام وانهيار السلطات»، خلاصته أن الإعلام متأرجح بين إعلام الحروب، وحروب الإعلام، وإعلام السلام، تقاسمته الأحزاب والمذاهب ودفنت ديمقراطية مونتسكيو مجدّداً، وهشّمت السلطات التشريعية والإجرائية والقضائية، حيث لا فصل ولا تعاون ولا توازن بينها. سقطت السلطة الرابعة وصار الإعلام «سلطة السلطات» في جمهورية المصالح والكيديات السياسية والطائفية المتفجّرة، يديرها الإعلاميون، ويجابهون من لا يلاطفها في الداخل والخارج. وتكمن العلل في ممارسة الديمقراطيات المجوّفة التي تضع لبنان أمام حروب أهلية جديدة مقيمة في الوسادة.

الصحافة اللبنانية لبنانية كانت، وما زالت، مواقد لمعظم الهويات الأخرى، يكفل الدستور حريتها. وبالرغم من هذه الكفالة، لم تكن حرّة كثيراً بقدر ما كانت مرهونة لأصحاب الأموال والثروات والأنظمة، لا بل مستأجَرة منهم. ولم يكن بمقدور الصحافة، بمعناها الواسع، أن تخالف عقود الإيجار لأن على المأجور، عقاراً كان أم إنساناً، أن ينفّذ الشروط السرية والعلنية المتفق عليها في العقد. وأشبّه التراث المتراكم في الصحافة اللبنانية في الشاشات والإذاعات بسائق السيارة الخاصة الذي يقودها ظاهرياً حراً ومصدّقاً قيادته وحريته إذ يحركها بيديه ورجليه وعينيه، لكنه ليس حراً، لأن معظم حركاته تأتيه همساً لطيفاً، وربّما أمراً، من سيده الثري على المقعد الخلفي. إن معظم الصحفيين يقدمون برامجهم ويلحّنون الأخبار والوقائع والأحداث بصفاتها وجهات نظر ومواقف متنافرة تُكتب للمموّل لا للقارئ، ولا للسامع والمشاهد.

وتكاد لا تُحصى في بلدنا معالجات الأخبار، والتعتيم على النشر لحقائق كانت تؤكد رضوخ الصحافة اللبنانية، في مجملها، للمال والجاه، لا للحرية والحقائق. يتضح هذا الأمر في مواثيق الشرف التي كانت تحظر، في لبنان، التعرض للمصارف والزعماء والدول، بينما نراها تحظر، في دول أخرى، التعرض للجيوش، وأمن هذه الدول، أو التعرض للمقدسات الدينية، على اعتبار أن الدين لا يتعاطى في الشؤون السياسيّة أساساً، وإن كان رجال الدين في لبنان يتعاطون في السياسة أكثر من الدين. وهناك زواج تاريخي بين مقولتين: وقف الحملات الإعلامية ووقف إطلاق النار.

كيف يمكننا فهم الصحافة اللبنانية الحرة، إذا كان يحظر أساساً على الصحفيين تناول الأنشطة المالية والدينية والسياسيّة والأنظمة ومسؤولي الدولة؟ هكذا نشأنا في لبنان، إذاً، على صحافات تغطّي السياسات. وتجد عندنا برنامجاً سياسياً أقوى من الدولة كلّها بسلطاتها كلها في جمهورية الألف إعلامي.

لم تكن الصحافة عندنا سياسية أو رسولية. كان الإعلام الرسمي، مثلاً، يبخّر الحكام، ويُمجّد عظائمهم وعظمتهم من جهة، ويتجسّس على الناس، ويروّض الصحافة والصحفيين لمصلحة الحاكم. توسع لكنه ما زال إعلامَ مزارع مذهبية لا إعلامَ الدولة والمؤسسات والجماهير. ماذا قدّم على صعيد الإرشاد والتوجيه، وما هو المشروع الإعلامي الذي قدّمته وزارة الإعلام للناس خلال خمسين عام؟ وأين هو الكتاب الذي وضعته هذه الوزارة في متناول الناس غير خطب وكلمات و«ألبومات» صور الرؤساء والوزراء؟

لم يكن المحرِّر الكاتب المطّلع والمثقف واللغوي البارع، يُسمّى «الأجير» في قانون العمل اللبناني، مثل عمال الأفران، غير أن هؤلاء يصنعون الخبز، لكن الدولة أصبحت أضعف وأكثر طائفية أمام قوة الصحافة التي تعرّي الوقائع فيصبح العيش نوعاً من الانهيار الدائم في ديمقراطية الجمهورية الاسمية.

ولطالما تمسّك أصحاب الصحف بصحفهم بسبب القانون الذي سهّل ثراءهم، لأن العقار الإعلامي والأرضي صنوان، ولأن الشراكة والعجز الفاضح للدولة في تطبيق قانون الكشف على الحسابات المالية جعلا الجريدة التي تطبع مئات النسخ من العدد الواحد، لا توزع أكثر من سبع نسخ: واحدة لصاحب الجريدة، والثانية لسكرتيره، والثالثة للمحرر، والرابعة للمحاسب، والخامسة ل «فراش» العمارة، والسادسة لوزارة الأنباء لحفظ الامتياز في حقوقه الكاملة، والسابعة للأرشيف، بينما كانت تُباع الكمية اشتراكات للدول الأخرى. كيف عاشت صحف من هذا النوع؟

سألني وزير إعلام: كيف ننظم الإعلام؟ قلت: بإلغاء وزارة الإعلام، وكلّ إعلام رسمي. لا تُبنى الأوطان بالإعلام.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"