عادي
يعيد «الويسترن» الأمريكي بمضمون فلسفي عميق

«ذا باور أوف ذا دوج».. فيلم استثنائي معقد وسلس

23:21 مساء
قراءة 5 دقائق

مارلين سلوم
فيلم لا يمر دون أن يستوقفك ويعلق في ذهنك وربما يستفزك ليسرق منك كل اهتمامك وتركيزك، ويترك أثراً في نفسيتك طوال مدة عرضه لأكثر من ساعتين بقليل. قد تستغرب عنوانه وربما لا يشدك للمشاهدة، لكن العمل ومنذ اللقطة الأولى يؤكد لك أنه مختلف، يعيد المشاهدين إلى زمن «الويسترن» الأمريكي ورعاة البقر، إنما بمضمون فلسفي عميق جداً.

«ذا باور أوف ذا دوج» (قوة الكلب) الذي تعرضه منصة «نتفليكس»، دراما سلسة ومعقدة في آن، سلسة لأنها انسيابية في تسلسل أحداثها، لا عودة إلى الوراء ولا تداخل أحداث من الحاضر والماضي، وسلسة أيضاً من حيث التعريف بالشخصيات وعلاقتها ببعضها، لكنها معقدة من حيث المضمون وتعمق القصة في البعد النفسي لكل شخصية، ويشعرك بأنه من النوعية التي تنهال عليها الجوائز إلى أن تصل إلى «الأوسكار».

حين نعرف من هي مخرجة وكاتبة الفيلم، لا نستغرب فوزه بتسع جوائز من مهرجانات، وجهات عدة ترشحه ل 38 جائزة حتى الآن. إنها جاين كامبيون الحائزة «الأوسكار»، والسعفة الذهبية من مهرجان «كان السينمائي الدولي» عن فيلمها «ذا بيانو» عام 1994، بجانب الجوائز التي حصلت عليها عن أفلام أخرى، وها هي تضع بصمة جديدة في السينما العالمية من خلال الفيلم «الغريب»، الذي لا نستغرب ما نال من جوائز حتى الآن وتقدمه السريع وحصده للمزيد من الجوائز لاحقاً.

رغم أن كامبيون لم تؤلف القصة بل اقتبستها من رواية توماس سافاج والتي تحمل نفس الاسم، إلا أنك تجد فيها الكثير من أسلوب وأجواء هذه الكاتبة السينمائية، لا سيما إبرازها لآلة البيانو في هذا العمل أيضاً. وإذا كان «قوة الكلب» دراما نفسية عميقة تحتاج إلى متابعتها حتى المشهد الأخير كي تفهم ما يحصل، فإن كامبيون المخرجة تمنحك مساحة من الراحة بكثرة تصويرها للطبيعة في «مونتانا» في نيوزيلندا، وتترك للكاميرا حرية التجول وسط الجبال الصخرية، مصحوبة بالموسيقى فقط بلا أي حوار أو ظهور للشخصيات، وهنا لا بد من الإشادة بالمصور السينمائي آري فيجنر الذي يبرز ملامح الشخصيات في لقطات قريبة، ويمنح الطبيعة مساحة كافية كي تعبر بدورها عن الحياة القاسية التي يعيشها رعاة البقر، والإشادة أيضاً بالمؤلف الموسيقي جوني جرينوود الذي زاد من تأثير المشاهد على الجمهور بفضل الموسيقى المصاحبة طوال الفيلم، والتي كانت كافية أحياناً وبلا أي كلام للتعبير عن المواقف.

صورة تقليدية

يبدأ الفيلم بصوت شاب يحكي أن أكثر ما شغله عند وفاة أبيه هو كيف يسعد أمه؟ الأحداث تدور في مونتانا عام 1925، ثم نرى البطل فيل (بنديكت كومبرباتش) وشقيقه جورج (جيسي بليمونز)، من رعاة البقر ويملكان قطيعاً ضخماً، لكن الأول يجسد بشكله وصوته وطريقة كلامه الصورة التقليدية لراعي البقر الأمريكي، بينما شقيقه جورجي كما يناديه على عكسه تماماً، بكامل أناقته وهو على صهوة حصانه وبرفقة أخيه وسائر مجموعة الرجال ينتقلون بقطيع الماشية من مكان إلى آخر. جورج لا يتخلى عن البذلة والقبعة الرسمية، في حين أن فيل معروف عنه أنه لا يحب الاستحمام، أياً كانت الأحوال والظروف. ينتقل الشقيقان مع مجموعة من الرجال والقطيع من منطقة إلى أخرى ويتوقفون عند نزل تديره أرملة.

فعلاً بنديكت كومبرباتش هو الممثل المناسب في المكان المناسب. مختلف تماماً عن كل الأدوار التي جسدها سابقاً، رجل حاسم، شديد القسوة، قائد لا يحب أن يتلقى التعليمات من أحد، دائم السخرية من أخيه ويسميه باستمرار «البدين»، وشديد السخرية أيضاً من كل من لا يعمل معه وتحت إمرته. يمكن القول إن كومبرباتش يستحق «الأوسكار» عن هذا الدور، مختلف في كل شيء، من الملابس إلى الملامح، مقزز، متنمر، بلا رحمة، متمرد على المجتمع وخصوصاً الطبقة الأرستقراطية رغم أنه بالأصل رجل متعلم ومثقف، ووالداه من الطبقة الغنية المثقفة، لكنه بتصرفاته وعقليته يبدو متحجراً رجعياً رافضاً لوالديه ولكل من ينتمي لهذه الطبقة. بنظراته ونبرة صوته وطريقة كلامه وحركاته، تمكن كومبرباتش من إقناعنا بأنه قائد لمجموعة رجال، حاد، مرعب بنظرته، سليط اللسان ورجل غير سوي، من الناحية النفسية، يخفي سراً ما؛ وميزة الفيلم أنه يوصل إليك هذا الإحساس بأن خلف البطل حكاية ما جعلته يخرج عن مسار والديه ويختلف كلياً بالطباع والتصرفات والأفكار عن أخيه جورج الأكثر رقة وخلقاً منه.

تفاصيل صغيرة

المخرجة جاين كامبيون لعبت دوراً مهماً في منح كومبرباتش هذه المساحة ليقدم لوناً جديداً لم نعهده به، ومنحت هي الشخصية شكلاً يزيد من حدتها، علماً أن المخرجة تتوقف عند التفاصيل الصغيرة وتلفتنا إليها فتعتمد كثيراً على الإيحاءات والرموز وليس فقط على الحوار، كما تعطي كل شخصية حقها في الظهور. ومن الشخصيات المهمة والتي تبدو حقيقة هي الند لشخصية فيل، الشاب بيتر (كودي سميت ماكفي) ابن روز (كيرستن دونست) صاحبة النزل والمطعم في «بيتش». كودي يجسد الدور بإتقان شديد، وهو أيضاً لا بد أن يحصل على مجموعة جوائز عن هذا الدور. بسبب تنمر فيل وفظاظته وسخريته من الزهور الورقية التي يصنعها بيتر من أجل أمه ويحمل بعضاً منها إلى قبر والده، يترك بيتر عمله كنادل في مقهى أمه ويبتعد تاركاً روز تبكي. يتعاطف معها جورج ثم ينتهي به الأمر بالزواج منها، ما يشعل غضب فيل الرافض للنساء والزواج، ويصر على معاملة زوجة أخيه بفظاظة شديدة تتسبب في انهيارها وإدمانها الكحول.

تطور الشخصيات والأحداث يشكل مفاجأة للمشاهدين، لكن من يدقق ويحلل تصرفات كل من فيل وبيتر، يمكنه أن يربط الأحداث بشكل منطقي، لكنه لن يستطيع تكهن النهاية أبداً. بيتر الذي يبدو ضعيف الشخصية هزيلاً خجولاً، يملك في شخصيته اللين والقسوة، الخجل والجرأة على الانتقام؛ مؤثر ومعبر جداً مشهد التقاطه لأرنب ثم تشريحه بحجة أنه يتدرب لدراسته الجامعية (الطب)، فنكتشف لاحقاً أنه «مخيف» بالقوة التي يكتمها في داخله، والقسوة التي يمكن أن يرد بها الصاع صاعين لمن يفكر في أذيته وأذية أمه، وهو يتودد للبطل فيصير ككلبه المطيع إلى أن يحين موعد إبراز شراسته. كيرستن دونست متألقة أيضاً بدورها كأم وأرملة وزوجة ومدمنة.. لن نتحدث كثيراً عن القصة ومضمونها لأن أي سرد للتفاصيل أكثر سيؤدي إلى كشف النهاية، أو الإيحاء بها. إنما ما يمكننا قوله إن «قوة الكلب» فيلم استثنائي، عميق، متعب وممتع، قد لا يعجب الباحثين عن استراحة سينمائية بلا تفكير أو تحليل، فقط لمجرد التسلية، كما يجب الانتباه إلى العمر المحدد للمشاهدة والمفضل ألا يشاهده من هم دون 18 عاماً.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"