تأملات في مقولة نادرة

00:14 صباحا
قراءة دقيقتين

ما السؤال الذي يجب أن يوجّه إلى أنظمة التعليم بلا كلل؟ هو: ماذا فعلتم بمقولة الإمام علي، كرّم الله وجهه: «لا تعلّموا أولادكم ما عُلّمتم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»؟ إذا اختلفت صياغة فالمعنى واحد.
هل ثمّة قول مأثور أروع، نجعله بوصلة للتغيير والتطوير؟ المبدأ التجديديّ نادى به الجاحظ في تدريس النحو، ولم يكترث له أحد. بعد سبعة قرون ثار ابن مضاء القرطبي على النحاة، وذهب كلامه صيحة في واد، ابن رشد ألّف «الضروري في صناعة النحو»، فصار محتاجاً إلى منقذ من عواقب الفكر في غير بيئته.
الأسباب التي أدّت إلى وأد تلك المقولة الوقّادة واضحة. نحتاج إلى الخيال: ماذا لو جرت الجملة على لسان شخص غير الخليفة الرابع؟ وزن المقولة جبال تعجيزيّة. ردّ الفعل المتوقّع، إذا طُرح الموضوع على نخبة علماء التربية في بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، اليابان.. لقالوا: نريد مهلة بضع سنوات، في الأثناء عليكم بمناهج فنلندا وسنغافورة. هل اكتشفت الآن المغامرة الفكرية البعيدة التي دارت في ذهن الإمام عليّ قبل أن ينطق بالمقولة؟ لا شك في أنه استقصى ما الذي يمكن تدريسه في القرن الأوّل الهجري، بعد طرح ما تعلّمه أولياء الأمور والمعلمون أو من يقوم مقامهم.
علينا بالإنصاف، فصفوة علماء التربية في البلدان المتقدمة، إذا طلب منهم عدم تعليم ما تعلّموه، فموقفهم أهون ألف مرّة من موقف أهل القرن الهجري الأوّل، والقرون العشرة التالية، في الأقل. الغربي ابن العصر الحديث، خصوصاً بعد القرن التاسع عشر، أمامه مروحة صينيّة من العلوم التي لم يتعلمها آباؤه وأجداده، فليس صعباً عليه العمل بكل أبعاد المقولة. أمّا معاصر الإمام علي فسيقع في مأزق عويص، إذا هو دُعي إلى التخلي عمّا تعلّمه، حتى يعلّم أولاده ما لم يتعلّم. هنا، قد يكون المخرج الخلاصيّ هو أن ننظر إلى المقولة بعين غير عين الخيال العلمي في تحليل الأبعاد، حتى لا نقرأها قراءة حديثة تفجيريّة تتجاوز عصرها، إذ من التصوّرات المعقولة أن يكون المقصود: لا تعلّموا أولادكم ما انتقل إليكم من الجاهلية، فإنهم خلقوا لزمان تحكمه قيم إسلامية مختلفة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الإحيائية: إعادة قراءة درر التراث ببصر وبصيرة حديثين، تشكل قاعدة إطلاق مركبات فكرية مستقبليّة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"