أفضل ما توصل إليه فلاسفة السياسة

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

بلغ الحرص من جانب البرلمان الفرنسي على مشاعر بعض الفرنسيين إلى حد أنه علّق مناقشاته حول مشروع قانون كان يناقشه، حرصاً منه على هذه المشاعر، وقال عدد من نواب المعارضة في البرلمان وهُم يعلقون مناقشات مشروع القانون، إنهم في انتظار تفسير من الرئيس إيمانويل ماكرون لعبارة أطلقها أثناء حديث له مع صحيفة «لو بريزيان» الفرنسية. 
 مشروع القانون الذي ربما يكون قد جرى إقراره عندما ترى هذه السطور النور، يتعلق بالمواطنين الفرنسيين الذين لم يحصلوا على اللقاح ضد فيروس «كورونا» بعد، والعبارة التي أطلقها الرئيس ماكرون في حديثه مع الصحيفة الفرنسية تقول إنه يريد «تعقيد حياة» هؤلاء المواطنين؛ بل ويريد إثارة سخطهم، لأنهم على حد تعبيره يفتقدون الإحساس بالمسؤولية. 
 وسوف يدهشنا أن نعرف أن المواطنين الذين يقصدهم ماكرون بعبارته لا يتجاوز عددهم عشرة في المئة من الفرنسيين ممن تزيد أعمارهم على 12 سنة،.. فإحصاءات الحكومة الفرنسية تقول إنها نجحت في تطعيم تسعين في المئة من مواطنيها الذين تزيد أعمارهم على هذه السن. 
 والنواب المعارضون في البرلمان لم يكونوا ضد مشروع القانون من حيث المبدأ، لكنهم ضد أن يكون منطق رئيس الدولة في تمرير مشروع قانون، هو تعقيد حياة مواطنيه، حتى ولو كان المواطنون الذين ستتعقد حياتهم لو مر مشروع القانون، لا يمثلون سوى عشرة في المئة ممن هم في سن التطعيم، وحتى ولو كان عدم حصولهم على اللقاح يضر الآخرين. 
 ومن المعروف أن الشعب الفرنسي من أكثر الشعوب الأوروبية، إن لم يكن أكثرها، من حيث تشكيكه في اللقاح وفي جدواه. 
 وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن حكومته قد بذلت جهوداً جبارة في ملف التطعيم، وإلا، فما معنى أن يتم تطعيم تسعين في المئة من شعب اشتهر بين شعوب أوروبا كلها بتشكيكه في اللقاح، وبإحجامه عن التطعيم على الرغم من كل الإغراءات؟ 
 وعند الحديث عن الإغراءات التي تقدمها حكومات العالم لشعوبها من أجل دفعها إلى الحصول على اللقاح، سوف نجد أن الإغراءات كثيرة ومتنوعة، ومن بينها على سبيل المثال أن إدارة الرئيس جو بايدن في الولايات المتحدة، قررت تقديم خدمة التوصيل مجاناً إلى مراكز التطعيم عن طريق شركة «أوبر» لكل مواطن يقرر الإقلاع عن التشكيك في اللقاح، وفي مرحلة تالية قرر حاكم ولاية نيويورك إعطاء مئة دولار لكل مواطن من أبناء الولاية يحصل على اللقاح. 
 غير أن قرار البرلمان الفرنسي تعليق نقاشات مشروع القانون المعروض عليه، سوف يظل فريداً في بابه؛ من حيث مدى تدقيق البرلمانات على امتداد العالم المتطور في قيامها بواجباتها تجاه شعوبها؛ ومن حيث حرصها على أن تمثل الناخب الذي انتخب أعضاءها. 
 فالبرلمانات نشأت في العالم للقيام بوظيفتين لا ثالث لهما، إحداهما الرقابة على أعمال الحكومة، والثانية تشريع القوانين للناس. 
 وفي هذا الإطار يمكن فهم موقف كريستيان جاكوب، رئيس الحزب الجمهوري الفرنسي المعارض، الذي وقف في البرلمان يقول إنه هو نفسه يقف ضد الذين لم يحصلوا على اللقاح، لكنه لا يقبل في الوقت نفسه أن يوافق على تمرير مشروع قانون يعمل على تعقيد حياتهم. 
 ولا بد أن هذا المعنى في حديث النائب جاكوب يظل في مقدمة مزايا النظام الديمقراطي، الذي وصفه تشرشل بأنه ليس الأفضل من حيث ما تستحقه الشعوب، لكنه أفضل ما توصل إليه فلاسفة السياسة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"