سليمان جودة
الخبر الذي أذاعه جهاز التعبئة العامة والإحصاء في القاهرة يوم 13 من هذا الشهر، لا بد أنه استوقف كثيرين أمام شيء لم يتوقعوه.
كان الخبر يقول نقلاً عن مصادر دولية للإحصاء، إن عدد الذين يستمعون إلى الإذاعة حول العالم وصل في العام الماضي إلى ثلاثة مليارات و41 مليون مستمع، وأن الزيادة في هذا العدد من المستمعين مقارنة مع عدد مستمعي 2021 تصل إلى 24 مليوناً.
وكانت المناسبة التي دفعت الجهاز إلى إذاعة هذا النبأ، أن يوم 13 فبراير/ شباط من كل سنة يوافق يوم الإذاعة العالمي، وأن خبراً كهذا، سيسعد محبي الراديو بالتأكيد.
ونحن نعرف أن عدد سكان العالم وصل في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة الماضية إلى ثمانية مليارات نسمة، وأن معنى هذا الخبر الذي أعلنه جهاز الإحصاء، أن ما يقرب من ثلث أهل الأرض يستمعون إلى الإذاعة ويحبونها، وهذا لا بد أنه نبأ سار على أكثر من مستوى.
هو سار لأن كثيرين كانوا يتصورون إلى ما قبل إذاعة هذا الخبر، أن الإذاعة لم يعد لها أي جمهور، وأن التلفزيون في مرحلة تالية لظهورها قد استولى على جمهورها، وأن جهاز الموبايل في مرحلة حالية، قد استولى على ما تبقى من الجمهور، وأن مستمع الراديو صار كالغريب في بلاد غريبة، وأن الذين يستمعون إليه أصبحوا قليلين إلى حد لا نكاد معه نذكرهم ولا نتوقف عندهم.
وهو سار على مستوى آخر، لأن كل محب للإذاعة من حقه أن يستشعر منذ اليوم، أو بالأدق منذ قرأنا هذا الخبر، أنه كمستمع للراديو لا يشكل أقلية كما كان يتصور، وأنه لا يفعل شيئاً غريباً من نوعه، إذا ما أنصت إلى ما تقدمه الإذاعة عبر أثيرها كما كان يتخيل.
والخبر سار على مستوى ثالث؛ لأن الراديو إذا كان يغذي خيال مستمعيه كما نعلم، فالخبر الذي يتحدث عن أعداد المستمعين يقول لنا، إن الخيال لا يزال له مكان، في ما تقدمه وسائل الإعلام المسموعة، وأن المادة المذاعة لها من يستمع إليها وينتظرها؛ بل ويسعى إليها، ويحرص على الانصات لما تقوله، ويجد فيها ما يرضيه، ويعجبه، ويعوضه عن كل ما عداها.
وليس سراً، أن جانباً كبيراً من جمهور الإذاعة كان يرسم صورة في ذهنه لنجوم الراديو، سواء كانوا من المذيعين، أو المخرجين، أو الممثلين، وكانت هذه الصورة مثالية الملامح في الأغلب، ولم يكن صاحب هذه الصورة من المستمعين يحب أن يرى النجم الإذاعي رأي العين، وإنما يسمعه فقط، لأنه كان يحب أن يحتفظ بالصورة كما رسمها، ولم يكن يحب أن يطرأ عليها ما يخدشها أو ما يغيّرها.
وما هو غريب حقاً، أن نكون في عصر يتميز بأنه عصر الصورة، ثم يكون في هذا العصر نفسه هذا العدد الهائل من المستمعين، الذين لا تبعدهم الصورة عمّا يحبون، والذين يفضلون أن يظل كل واحد فيهم غارقاً في خياله وهو يستمع إلى ما يشده ويفيد عقله ووجدانه.
كان الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة الأشهر في مصر، قد وضع كتاباً عنوانه «العين تسمع والأذن ترى» وكان يعكس الأمر في السمع والرؤية كما ترى، وسوف لا تجد أفضل من عنوان كتابه في التعبير عن بُعد من أبعاد هذا الرقم المذاع عن أعداد المستمعين.. فكل واحد منهم يفضل في غالب الأمر أن يرى بأُذنه، لا بعينيه، مع ما في ذلك بالطبع من مزايا لا يعرفها إلا محب الراديو.
الذين يستمعون إلى الراديو في أعلى حالاتهم المعنوية هذه الأيام، أما السبب فهو أن الشهادة في حقهم جاءت بالرقم الذي لا يُكذب ولا يتجمل.