عادي

صوت الفرد.. وداعاً

00:06 صباحا
الصورة

** الشارقة - محمد إسماعيل زاهر

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أعلن بعض المثقفين العرب عن وفاة القصة القصيرة، والتي جاءت كنتيجة طبيعية لإعلان الكثير من الكتّاب والنقاد عن زمن جديد تتسيده الرواية في نهاية التسعينات من القرن الماضي، لقد كانت القصة القصيرة، وبصفة خاصة في الساحة العربية قد وصلت إلى طريق مسدود.

نحن لا نعلم شيئاً عن حال القصة في الثقافات الأخرى، فصعود وتيرة الترجمة في السنوات الأخيرة، رسخ أكثر للرواية لأسباب أخرى عديدة، ولكن ما نعلمه أن كاتبة القصة الوحيدة التي فازت بنوبل هي الكندية أليس مونرو في عام 2013، وللتوقيت هنا دلالته، أي أنها حصلت على الجائزة الأرفع في العالم، خلال عودة المثقف العربي من عزاء القصة القصيرة، لم تمر سنوات قليلة إلا وكنا نلهث وراء النصوص الشذرية، سواء المترجمة أو المعاد طباعتها من التراث بمداره الواسع، الصوفي خصوصاً، حتى أن كاتباً بوزن نجيب محفوظ، كتب قصصاً قصيرة مميزة منذ الستينات إلا أن هواة جمع الشذرات لم يلتفتوا إلا إلى نصوصه الأخيرة: «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة»؛ وذلك نظراً لسهولة الحصول على «مقتبسات» منها ووضعها على صفحات «الفيسبوك» و«تويتر»، وتزامن ذلك مع حديث روجه البعض عن القصة الومضة أو القصة القصيرة جداً التي تتكون من عدة سطور.

ما نود قوله إننا أمام ثقافة جديدة وتحتاج إلى دراسات أعمق وتحليلات جذرية على درجة عالية من الدقة والجدية والمنهجية، لتفسير انقسام ثقافتنا الحاد بين الإقبال على الرواية والنصوص الشذرية في الوقت نفسه، الأولى نصوص مطولة، والثانية نصوص سريعة جداً، والمفارقة هنا ضياع أو تراجع أو اختفاء القصة القصيرة التي كان ينبغي لها الازدهار في ذلك المناخ ليس على مستوى المتلقي وحسب، ولكن على مستوى الكاتب أيضاً، فكل الكتّاب الآن يشكون من اللهاث وراء لقمة العيش وضيق الوقت وتغول وسائل التكنولوجيا والتي تسرق لحظات فراغهم، ومع ذلك يتجهون لكتابة الرواية..نحن هنا لا زلنا ندور في فلك الإنتاج والتلقي ولم نأخذ في الاعتبار بعد ضغوط دور النشر والجوائز التي تدفع الكاتب إلى الاتجاه نحو الرواية.

إجابات عامة

عندما تسأل أي متخصص عن مفارقة تراجع القصة القصيرة، في عصر القراءة السريعة، ستجد إجابات عامة..لا تلمس مكمن الداء، هذا سيحدثك عن تراجع الموهبة بشكل عام، وذاك سيقول لك لم يعد هناك من يمكنه التكثيف والترميز، وثالث سيخبرك عن عجز الكتّاب الجدد عن صياغة لغة شاعرية تلخص أعقد الأحاسيس والمواقف في كلمات أنيقة وقليلة، ولكنها مقولات تنطبق على كل الأجناس الأدبية بشكل عام، فضلاً عن أنها تخفي رؤى مراوغة بداخلها، فكل حديث يخص القصة بكل هذه التقنيات العالية المستوى كأنه يقول من باب خفي إن الرواية تتضمن الحشو والتطويل وما لا لزوم له من المشاهد والاستطراد في الوصف والحوارات المملة، والحقيقة أن جودة الأسلوب ضرورة لأي كتابة حتى التقارير الصحفية لابد أن تتسم بومضات جمالية ما.

هناك من يحلو له أيضاً أن يتحدث عن صعود الصورة، وقدرة الرواية على التعامل مع مشهدية سينمائية باتت تخلب لب الجميع، والواقع أن أفضل فترات السينما هي التي شهدت انتعاشاً لافتاً للقصة القصيرة.

لن تجد إجابة شافية لتراجع القصة القصيرة حتى باتت على وشك الاختفاء، البعض يقول لم يعد هناك في الساحة تلك الأسماء اللامعة من كتّاب القصة التي تحث الأجيال الجديدة على كتابتها، ولكن الوضع نفسه سنجده في الشعر والرواية، وستعثر خلال تجوالك في المكتبات على نصوص «حرة» في مختلف شؤون الحياة، ونصوص تقرأ مفردات العالم بجمالية، ونصوص شذرية ونصوص لقصيدة النثر، تلك المحاربة دائماً،.. ولكن من الصعب العثور على مجموعة قصصية جديدة..هناك بالطبع من يكتب القصة ولكن أي منتج ثقافي يتم ترويجه والاهتمام به فذلك لأنه يلبي احتياجات معينة لمجتمع القرّاء، وعندما يتجاهل الإعلام والنقد ودور النشر القصة القصيرة فمعنى هذا أنها لم تعد تلبي تلك الاحتياجات.

غياب الإحصاءات

تغيب عن ساحتنا الثقافية تلك الإحصاءات المتعلقة بمجتمع القرّاء، ولا ندري هل يوجد في جامعاتنا تخصص لعلم اجتماع الأدب، وبالتالي ستظل مسألة تفسير تراجع القصة القصيرة مجرد اجتهادات شخصية.

ارتبطت القصة القصيرة دائماً بفكرة؛ بل كانت دوماً تتسم بفكرة مميزة جداً، وعندما نفتش في ذاكرتنا سنجد أننا نستعيد هذا الحوار أو ذلك الوصف من هذه الرواية أو تلك، أما القصة القصيرة فكانت هي الفكرة التي كانت تدهشنا وتثير إعجابنا، قصص موباسان وإدجار آلان بو وتشيخوف و جوجول ويوسف إدريس..وغيرهم..كل قصة بارزة لهؤلاء لم تكن تكثيفاً أو لغة عالية المستوى أو لقطة ذكية، كانت تتضمن كل هذا، ولكن ما كان يميزها بالدرجة الأولى الفكرة اللمّاحة والذكية، حتى قصص نجيب محفوظ التي لم تجد من يقرؤها نقدياً بعد، كانت قوتها في فكرتها.

الفكرة ارتبطت بمناخ يعلي من شأن النخبة ومن قيمة المثقف الفرد بالدرجة الأولى، من هنا نفهم مقولة البعض غير المكتملة «الرواية هي صوت المجموع أو المجتمع»، وبقية المقولة المسكوت عنها يتمثل في أن القصة القصيرة هي صوت الفرد، وسنلاحظ أن الإعلان عن وفاة القصة القصيرة السابق الإشارة إليه جاء بعد سنوات قليلة من الإعلان عن موت أو سقوط النخبة، ففي عصر التكنولوجيا فائقة الحداثة و«السوشيال ميديا» لا توجد نخب تقليدية كالتي عرفناها في الماضي، والنخب الموجودة على مواقع التواصل إما تلخص رأيها في الحياة من خلال مقولة وإما تستطرد في الحكي- السرد.

جماهير غفيرة

نحن نتوهم الآن أننا في ظل هذا الواقع مجموعة أفراد يستمتعون بفرديتهم بكل ما تختزنه المفردة من معانٍ ودلالات، ولكننا في الحقيقة جماهير غفيرة تستنسخ بعضها، لا مجال لصوت الفرد، ولا حيز للاختلاف، نحن لسنا أكثر من كتلة جماهيرية ضخمة تفعل الأشياء نفسها من خلال الأدوات نفسها، هنا لا فكرة خاصة ولا مجال لالتقاطة عابرة..ولا يحتمل المجموع قصة قصيرة مركزة تعبر عن ذات تدرك معنى فرديتها..هي حالة روائية من الدرجة الأولى لابد لها أن تهمش القصة وتنحي الشعر وتبحث عن عزائها الخاص في هذا الاقتباس أو ذاك.

القصة القصيرة أيضاً كانت دوماً الفن الأدبي الذي يثير الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات، حدوتة بسيطة تحرك مكامن الاستفهام في العقل والروح، بينما تبحث الجماهير الغفيرة عن الإجابات..هي جماهير بائسة وجدت العالم فجاة بين يديها من دون أن تملكه، فأصيبت بالصدمة والبلبلة، ولأنها غير مؤهلة معرفياً فهي تسعى دوماً إلى ما يمنحها قبساً من الراحة.. رواية غامضة..تمتلىء بالأساطير، حتى روح الرواية اختلفت في هذا الواقع، ولعب كتاب الرواية على هذا الوتر واستفادوا منه، وشجعتهم دور النشر سعياً وراء الربح، وتحولت الثقافة بمجملها إلى عرض «شو». لا تحتمل الجماهير الغفيرة من يدفعها إلى السؤال، ولا تقبل من يتميز بفكرة خاصة ربما توقظها من ذلك الواقع الافتراضي الذي تعيش- تنام فيه.