من الغضب إلى الإصلاح

02:09 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.مصطفى الفقي

في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني، أتذكر أحداث عام 2011 وما بعدها، وأشعر بأن الأمر لم يأخذ حقه بشكلٍ كافٍ من التحقيق والدراسة، بل والتأمل، ذلك أن النداءات الإلكترونية التي انتظم بها الحشد في ميدان التحرير بالقاهرة، جعلت ذلك الحشد الكبير تجمعاً ضخماً بلا برنامج أو قيادة، فالكل جاء مدفوعاً برفضٍ لما هو قائم، مع رغبة عارمة في التغيير وفقاً لمطالب شعبية تتصل بشعورٍ عام ناقم على الأوضاع التي آلت إليها البلاد في تلك الظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد. والملاحظ هنا أن ذلك الغليان الشعبي شاركت فيه كل الفئات، بما في ذلك القوات المسلحة التي لم تكن راضية عن تردي الحال العام. وكلنا نعلم أن ما بدأ في 25 يناير كان فوراناً شعبياً عارماً، ولكن ليس له قيادة واضحة، ولا برنامج إصلاحي محدد، فقد كان الهدف هو الخلاص مما تعيش فيه البلاد، وبدء مرحلة مقبلة تسعى قوى مختلفة لتلقفها.
 ولذلك، فإن تعبير «ثورة» الذي يرتبط بتنظيم معين وبرنامج محدد لا ينطبق بدقة على ما جرى في ذلك الوقت، إذ إن ما حدث كان انفجاراً تلقائياً تقف وراءه شحنات من الغضب وزخّات من المشاعر الملتهبة، فضلاً عن نوايا طيبة في مجملها، ولست أشك في أن حشود الميدان في ذلك الوقت قد احتوت بعض العناصر الأجنبية، أو المصرية الطامعة في الحكم بلا حق، لذلك جاءت «جماعة الإخوان المسلمين» لتتصدر المشهد، وتزعم في البداية أنها لن ترشح رئيساً للبلاد، ثم تقوم بعد ذلك بترشيح رئيس أساسي، وآخر احتياطي آل إليه حكم مصر بعد شهورٍ من القلق والتوتر والغضب، دفعت فيها الكنانة ثمناً باهظاً. 
 وحاولت القوات المسلحة أن تضع سياجاً حصيناً يحمي المصريين، وأن تقف حارساً يقظاً للوطن وأبنائه، ولا شك في أن هناك معلومات كثيرة لا تزال غير واضحة بشأن ما جرى في ذلك الوقت من تآمر على مصر، داخلياً أو خارجياً. ولولا أن الحشد الشعبي غير المسبوق في الثلاثين من يونيو/ حزيران قد حسم الأمر بقرارات الثالث من يوليو/ تموز التي أعلنها وزير الدفاع حينذاك، عبدالفتاح السيسي، لولا أن الأمر كذلك لكان لنا قولٌ آخر، ولدفعت مصر ثمناً أفدح بكثير مما دفعت، إذ لم تكن هناك دولة قوية قادرة على حماية البلاد والعباد، ولنا هنا بعض الملاحظات حول المفهوم المعاصر لمدلول الثورة تطبيقاً على مصر في العقود الأخيرة:
 *أولاً: إن الثورة مدلول لا يتطابق بالضرورة مع مفهوم الإصلاح، فالفارق كبير بينهما، إذ إن فقه الإصلاح يعتمد على برامج تقوم على التخطيط المسبق والدراسة الشاملة، بينما تختلف الثورة عن ذلك في أنها عملية تغيير مفاجئ، قد تتمكن من الاستيلاء على السلطة ولكنها تحتاج إلى برنامج -إصلاحي أو ثوري – تقوم على تنفيذه وتعتبره خطة لعملها تقبل المحاسبة عليها. ولو أجرينا هذا المعيار على كثير من تعبيرات الثورة في تاريخنا الحديث لوجدنا أن الأمر يختلف كثيراً عما هو مستقر في أذهاننا. فقد أسرفنا كثيراً في استخدام تعبير ثورة بحق، أو بغير حق، فالثورة تحتاج إلى برنامج إصلاحي له ظهير شعبي كبير، وفي تلك الحالة يكون الحديث عن تعبير الثورة سليماً وعادلاً.
 *ثانياً: ترتبط الثورات تاريخياً بزعامة لها إسهام قوي في تغيير الأوضاع وإصلاح الأمور، فضلاً عن أن تكون قدوة ذات حضورٍ جماهيري، مع خلوّ ملفها الشخصي من مظاهر الفساد والإهمال، وينطبق هذا الأمر على بعض الزعامات في تاريخنا الحديث التي لا تزال الجماهير ترفع صورها في المناسبات المختلفة رغم كل الانتقادات التي تعرضت لها تلك الزعامات بعد رحيلها، إذ لا يترسب في ذاكرة الناس إلا نظافة اليد، وطهارة الضمير، والشعور بانحياز الحاكم للأكثر عدداً والأشد فقراً، ولعلنا نلاحظ أن شعارات 25 يناير لم تتضمن بنداً واحداً في السياسة الخارجية، ولكنها اقتصرت على ما جرى في الداخل، خصوصاً مشكلات انخفاض الدخل وشيوع الفساد المالي والإداري، فضلاً عن انتشار المحسوبية والمحاباة والشخصنة، ويكفي أن نتذكر شعارات ميدان التحرير في ذلك الوقت وهي: (عيش، حرية، عدالة اجتماعية) والتي تعكس معاناة الجماهير من مرارة الحياة وغياب العدل.
*ثالثاً: كان ما جرى في الثالث من يوليو/ تموز انعكاساً مباشراً للديموقراطية الحقيقية التي تعتمد على قاعدتها الجماهيرية الكبرى، شأنها شأن الجمعية العمومية للشركات والهيئات، وقراراتها أقوى من مجالس الإدارات المنتخبة، فالقاعدة الأصلية هي بالرجوع إلى أصحاب المصلحة المباشرة، وهم جماهير الشعب بلا جدال.
 أردنا من هذه السطور أن نوضح كيف تكون الثورة ذات مضمون يشير إليها، ومحتوى يحافظ عليها، واضعين في الاعتبار أن الإصلاح في النهاية هو سيد الموقف، وهو الفيصل في تقويم ما جرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"