مناطق جديدة من الوعي

00:16 صباحا
قراءة دقيقتين

عثمان حسن

الحديث عن عزلة الفنون التشكيلية يحتاج إلى متخصصين وأكاديميين لمعرفة أسباب وحجم هذه العزلة، أكثر من كون ذلك مجرد رأي انطباعي يضيع في متاهة العزلة الثقافية التي يعيشها العالم اليوم ولو جزئياً.

والحقيقة أن العزلة  إن وجدت  فهي عزلة ثقافية عامة، أو على الأقل تعود أسبابها إلى غربة الثقافة والفنون معاً، أمام إلحاح الحاجات اليومية والمعيشة.

في السابق كانت الفنون على قلة ما تعرضه الصالات، جاذبة للنخبة المثقفة، وجاذبة لجمهور متعطش للمعرفة، على الرغم من فقر وسائل الاتصال، كما هو الحال اليوم.

وبعبارة أصح، فقد أسهم تطور الصورة والفضاء المرئي في تقديم خيارات عدة للمشاهد، كفته مؤونة زيارة الجاليريهات والمعارض. نحن هنا نتحدث عن ذائقة فنية عربية فحسب، لم تتعود زيارة المعارض كما هو الحال في الدول الغربية والمتقدمة، التي كرست تقاليد معروفة وجمهوراً واسعاً من زوار المتاحف، كما هو حال فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وغيرها.

مثل تلك التقاليد راسخة ومعروفة وأنتجت جمهوراً مثقفاً وعارفاً، في حين كانت المعارض على المستوى العربي مستحدثة، وتقتصر على أهل الفن والنخبة المثقفة ليس إلا.

عربياً يمكن أن نستنتج بسهولة أن ثمة عزلة فنية من نوع ما، غير أن ذلك لا ينفي قدرة الفنون على الاختراق.. اختراق منظومة السكون الثقافية والمعرفية، كما أن اختبار تجربة الفن والإصرار عليها، يظل جزءاً من حركة الثقافة، وجزءاً من لعبة الفن وقدرته على اختبار مساحات معلقة في الوعي الثقافي العربي، ومن ذلك قدرته على المشاغلة والاستمرار في طرح السؤال.

هذه الدينامية التي تتميز بها الفنون دون غيرها، تسجل لمصلحة الفنون، وسعيها إلى الاستمرار، ومشاغلة الجمهور والمثقفين، فهي في الأخير فنون ناعمة، وتتمتع بقدرتها على التسلل إلى الذاكرة والوعي، وتفتح عن رصيد ولو ضئيل في وجدان وحساسية المثقف والمتلقي.

العزلة الثقافية هي ابنة المرحلة التي تراجع فيها الوعي، وقدر الفنون في ظل كل هذا التراجع الثقافي والمعرفي أن تستمر في الحركة، وأن تستمر متفاعلة مع بيئتها وثقافتها، وتبحث على الدوام عن جمهورها حيثما وجد، وذلك يحتم عليها مواصلة تحريك الراكد والخروج من العزلة ولو جزئياً.

إن غربة الفنون التشكيلية وخاصة المعاصرة، اليوم، وعدم قدرتها على اكتساب جماهيرية كاسحة، هو أمر طبيعي، وقدرها أن تستمر في تحريك الحساسية والوجدان، واللعب في منطقة غير مكشوفة، ومواصلة مشاغلة جمهورها، وهي ميزة تخوّلها البقاء والاستمرار.

غير أن ما ينقص الفنون والثقافة بوجه عام، هو اكتشاف مناطق جديدة في الوعي، وهنا تزداد التصاقاً بوعي اللحظة وحساسيتها، لتجذب جمهوراً جديداً، كان قبل قليل غارقاً في مشاغله الذاتية، وها هو اليوم يبدأ رحلة اكتشاف عزلته هو في مناطق جديدة لم يألفها من قبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب وشاعر وصحفي أردني، عمل في الصحافة الأردنية / في القسم الثقافي بجريدة الدستور ، ويعمل اليوم محررا في جريدة الخليج الإماراتية / القسم الثقافي، صدرت له عدة كتب في الشعر بينها: "ظلال" ، وردة الهذيان / ، وكبرياء الصفة / ، كما صدر له كتاب في الإمارات بعنوان "محطات حوارية مع وجوه ثقافية إماراتية" .
له كتاب مترجم غير منشور/ قصائد عن الإنجليزية، نشرت بعض هذه القصائد في "ثقافة الدستور" وفي مواقع إلكترونية محكمة مثل موقع "جهة الشعر.
شارك في أماسي وملتقيات شعرية عربية كثيرة، وقد قدمت حول نتاجاته الأدبية الكثير من القراءات النقدية.
عضو رابطة الكتاب الأردنيين ، وعضو نقابة الصحفيين الأردنيين.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"