حسام ميرو
من جديد، تثير الأزمة الأوكرانية، وخصوصاً الموقف الروسي، عدداً من الأسئلة حول رسوخ «مبدأ ويستفاليا»، وهو المبدأ الرئيس لسيادة الدول على أراضيها، فقد حدّد هذا المبدأ ركائز العلاقات الدولية، بحيث تمتلك الدول سيادة كاملة غير منقوصة على أراضيها وسياساتها الداخلية، بغض النظر عن مساحتها أو عدد سكّانها، ما يجعل الدول الصغيرة تتساوى مع الدول الكبيرة في الحقوق المقرّة في مبدأ سيادة الدول، وبناءً عليه، فإن كلّ الدول متساوية مع بعضها وفقاً للقانون الدولي، وقد أقرّت الأمم المتحدة هذا المبدأ لحظة تأسيسها في عام 1948، وهو المبدأ ذاته الذي كانت أقرّته «معاهدة ويستفاليا» في عام 1648، بعد نهاية ما يعرف ب«حرب الثلاثين عاماً» في أوروبا.
خلال الحرب العالمية الثانية، بين عامي 1939 و1944، احتّل الجيش الألماني دولاً بأكملها، ابتداءً من بولندا، وصولاً إلى فرنسا، مروراً بهولندا وبلجيكا، وذلك في محاولة من النظام النازي آنذاك لبسط سيطرته العسكرية والسياسية على أوروبا بأكملها، لكن خسارة ألمانيا للحرب، مهّدت لقيام نظام دولي، بوابته الرئيسية الأمم المتحدة، لحفظ السلام الدولي، ومنع قيام أي دولة مهما كانت قوّتها باجتياح دولة أخرى، وبالتالي، فقد كان «مبدأ ويستفاليا» هو الأساس الذي أقيمت عليه فلسفة السلام ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما يضمن علاقات ودية وتنافسية بين الدول، ويستبعد خيار الحرب، ما شجّع معظم الدول على تطوير الحقل الدبلوماسي، من أجل حلّ المشكلات بين الدول، أو تطوير العلاقات الثنائية.
بحسب كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831)، الجنرال والمؤرخ الألماني الشهير، فإن «الحرب هي استكمال للسياسة»، وتعكس هذه المقولة خلاصة تجربة الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر، فقد كانت الحرب هي أقصر الطرق لتحقيق سياسات الامبراطوريات، ولم ينجُ القرن الماضي من سلوك طريق الحرب لتحقيق السياسات، بل إنه شهد أكبر حربين تدميريتين على مستوى العالم، راح ضحيتهما عشرات الملايين، وقد رأت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية أنه آن الأوان لوضع حدّ للحروب، خصوصاً في أوروبا، وأن التطوّر والتنمية لن يكونا ممكنين من غير وجود سلام مستدام، وهو ما يتطلّب بالضرورة وضع نهاية للسياسات التوسعيّة، عبر توافق الأمم على احترام بعضها البعض، واعتبار سيادة الدول أمراً غير قابل للخرق، ما يعني الالتزام الجاد والعميق بهذا المبدأ.
إن اعتماد «مبدأ ويستفاليا» من قبل الأمم المتحدة، عَكس فعلياً توازن القوى بين الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، أي أنه جاء تكثيفاً لمحصلة موازين القوى العالمية في لحظة محدّدة السمات والشروط تاريخياً، لضمان استمرار مصالح تلك الدول في سوق العمل الدولي، وخصوصاً الدول الرأسمالية، التي عرفت تطوراً تاريخياً ليبرالياً، ومنظومة إنتاج حرّة، على خلاف الاتحاد السوفييتي، باقتصاده الاشتراكي الموجّه من قبل الدولة، وعلاقاته الدولية المحكومة بالأيديولوجيا، وقد عمل مبدأ ويستفاليا على منع التصادم لعقود طويلة بين الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، وبين الاتحاد السوفييتي، وحقّق سلاماً بارداً بين الطرفين، سلاماً مُنح اسمه الذي يستحقّه «الحرب الباردة».
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وانفراط عقد المنظومة الاشتراكية، وتفكّك بعض دولها إلى عدد من الدول الصغيرة، وتبوؤ الولايات المتحدة موقع القيادة في النظام الدولي، فإن مبدأ سيادة الدول، عرف انتهاكات عديدة، كان العالم العربي إحدى ساحاتها، مع اجتياح القوات العراقية لدولة الكويت، حيث تراجع نظام صدّام حسين آنذاك عن الاعتراف بالكويت بوصفها دولة مستقلة ذات سيادة، واعتبرها تابعة للعراق، ما استدعى تحالفاً دولياً، لإرغام القوات العراقية على الانسحاب.
في الحالة الأوكرانية، لم تمنع عضوية روسيا الدائمة في الأمم المتحدة، من الاعتراف بمنطقتي دونيتسك ولوغانسك كجمهوريتين مستقلتين عن أوكرانيا، وهو ما يعني خرق مبدأ سيادة الدول، من دون أي دواعٍ أو مبررات، كتلك التي يقرّها ميثاق الأمم المتحدة في الفصل السابع، وتحديداً في المادتين (41-42)، المتعلقتين بالتدخل الدولي، عبر الأمم المتحدة لحفظ السلام والأمن الدوليين، وتكمن خطورة هذا الخرق في أنه يشير بشكل مباشر إلى وصول العلاقات الدولية، التي تأسّست على «مبدأ ويستفاليا»، إلى حائط مسدود، وبصرف النظر عن مواقف الطرفين الروسي والغربي، فإن عجز الديبلوماسية عن حلّ الأزمة الأوكرانية هو نكوص فعلي إلى سياسات القرن التاسع عشر، والتنصّل من مبدأ ويستفاليا، والاستعاضة عنه بمبدأ كلاوزفيتز، ما يضع العالم كلّه، وليس أوكرانيا فقط، أمام انهيار قيم السلم العالمي، والتأسيس لحالات مشابهة في غير مكان من العالم، خصوصاً في إفريقيا والشرق الأوسط.