«عدم الانحياز».. من الاستراتيجية إلى التكتيك

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

إن الحديث عن عدم الانحيار في هذه المرحلة بالغة الحساسية التي يعيشها العالم، يعيدنا، بشكل أو بآخر، إلى منتصف القرن الماضي، عندما قرّرت مجموعة من الدول أن تختار النأي بنفسها عن الانخراط في الصراع بين الشرق والغرب، وقامت في مؤتمر باندونغ سنة 1955 بتأسيس حركة عدم الانحياز بحضور 29 دولة حديثة الاستقلال، وكانت الحركة تمثل في حينها خياراً استراتيجياً بالغ الأهمية في سياق محيط دولي يعيش حالة استقطاب حاد بين معسكرين قويين يهيمنان على صناعة القرار في العالم، في مقابل كتلة ضعيفة من دول العالم الثالث التي كانت لا تزال تسعى إلى المحافظة على كيانها الوطني من أجل تحقيق تطلعات شعوبها في التنمية.

 ولم تكن حركة عدم الانحياز مرادفة فقط، في تلك المرحلة، لالتزام الحياد بشأن الأجندات الاستراتيجية للمعسكرين، ولكنها كانت تعني في اللحظة نفسها، وبشكل ضمني، القبول بوضعية الحياد السلبي وعدم المشاركة في صناعة القرار على المستوى الدولي، واعتبار ذلك شأناً يخص الكبار دون سواهم، والاعتقاد من ثم بأن مجرّد احتفاظ دول الحركة بقرارها السيادي يمثل في حد ذاته إنجازاً كبيراً، ونجاحاً لا يستهان به في مقاومة ضغوط المعسكرين المتصارعين، وبخاصة ضغوط المنظومة السياسية الغربية التي كانت تنظر للحركة على أنها تمثل قناعاً يخفي تعاطف الأغلبية الساحقة لأعضائه نحو الاتحاد السوفييتي، بسبب الخيارات الإيديولوجية للأعضاء المؤسّسين آنذاك، وفي طليعتهم مصر الناصرية، والهند وإندونيسيا، وهي دول كانت تجاهر بدعمها لحركات التحرّر الوطني في إفريقيا وآسيا، وترى أن دول المعسكر الغربي ما زالت تتبنى أجندات توسعية تجاه مستعمراتها السابقة.

 أما الآن، وبعد التغيّرات الكبرى التي حدثت على مستوى توازن القوى في العالم، وتحوّل الدول الصاعدة والقوى الإقليمية إلى فاعل أساسي في صناعة القرار على المستوى الدولي، فلم يعد من الممكن الحديث عن عدم الانحياز كخيار استراتيجي، لأن الدول التي اختارت عدم الانحياز مع بداية المواجهة بين روسيا والغرب في أوكرانيا، اتخذت هذا القرار بناء على متطلبات تكتيكية ولتحقيق أهداف واضحة ولتوجيه رسائل لمن يهمهم الأمر؛ لأن «عدم الانحياز» بوصفه خياراً استراتيجياً، وليس تكتيكياً، يفترض وجود معسكرين متكافئين من حيث القوة والتأثير، بينما الجزء الأكبر من القوة في العالم هو محتكر الآن من طرف الغرب، وسيتطلب الأمر مزيداً من الوقت لتتمكن الصين من تحقيق التوازن المطلوب مع القوى الغربية، وفضلاً عن ذلك فإن القوى الصاعدة أضحت الآن منحازة بشكل كامل، ولكنها وعوض أن تنحاز لطرف على حساب طرف آخر، فإنها تنحاز لنفسها ولمصالحها، في المقام الأول.

 وبالتالي، فإن الأغلبية الساحقة من الدول التي رفضت الانخراط في مسار العقوبات الغربية على روسيا، راهنت على موقف تكتيكي ومرحلي حيادي لأنها رأت، وبصرف النظر عن موقفها من دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا، أن الحرب الغربية بالوكالة ضد روسيا لا تعنيها بشكل مباشر، لكونها ليست جزءاً من المنظومة الأمنية لحلف الناتو الذي اختار خلال أكثر من 30 سنة أن يتمدّد باتجاه الشرق، كما أنها ترى في الأسلوب المعتمد في تسليط العقوبات على روسيا، تهديداً لقواعد الاقتصاد العالمي، لكونه يمسّ بقداسة الملكية الفردية، وهو ما يمكن أن يحدث لدول أخرى ولمواطنيها في حال دخولها في صراع مع الغرب بقيادة واشنطن؛ وقد دفع هذا الأمر خبيراً فرنسيا إلى القول إن الغرب يطلق النار على رجليه عندما يسمح لنفسه بمصادرة أموال دولة أخرى، وعندما يعترف – ضمنياً - بعدم وجود نظام مالي عالمي يخضع لضوابط قانونية. وعلاوة على ذلك، فإن هذا الحياد التكتيكي يعني أن الدول التي راهنت عليه ليس من مصلحتها الهزيمة الكلية لروسيا وتنصيب الغرب زعيماً من دون منازع للعالم، لأن توازن القوى مهم للغاية لبناء العلاقات الدولية على أساس الندية.

 لذلك، فإنه وخارج المعسكر الغربي، فإن دول العالم تفضل في المرحلة الراهنة إقامة علاقات مرحلية غير منحازة لتحقيق أهداف محدّدة في الزمان والمكان، في عالم أصبحت الدول تشعر فيه كأنها تقف فوق رمال متحركة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"