الجمهورية الجديدة التي نحتاج إليها

00:11 صباحا
قراءة 4 دقائق

يتأسس طلب «الجمهورية الجديدة» على التصورات والأفكار التي تصاحبها والقواعد التي تلتزمها قبل الشعارات العامة والأحاديث المرسلة.
 قبل سبعة عقود تأسست الجمهورية في مصر، تناقضت السياسات والخيارات الاجتماعية والاستراتيجية بين رئاسة وأخرى من دون أن تحدث قطيعة كاملة في أسلوب الحكم.
 لن تكون هناك جمهورية جديدة إلا إذا تغيرت فلسفة الحكم وأساليبه وفق قواعد دستورية نافذة تتمتع بقوة الحضور في الحياة العامة.
 لا تنسب الجمهوريات إلى أشخاص، أياً كان قدر دورهم في تاريخ بلادهم. لا كانت هناك «جمهورية شارل ديغول» ولا «جمهورية فرنسوا ميتران»، ولا جمهورية أي رئيس آخر في التجربة الفرنسية المعاصرة، على الرغم من تباين التوجهات والسياسات وطبائع وأوزان الرجال.
 لا تنسب الجمهورية الخامسة، التي تأسست عام 1958 في فرنسا إلى الجنرال ديغول، الذي تبنى الدعوة لدستور جديد تغيرت بمقتضاه طبيعة النظام السياسي من برلماني إلى شبه رئاسي، بقدر ما تنسب إلى القواعد التي بنيت عليها الشرعية الدستورية وأنهيت بمقتضاها الفوضى الضاربة في بنية الحكم؛ حيث كان التغيير الوزاري يحدث على أوقات متقاربة للغاية في «الجمهورية الرابعة»، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
 إنها القواعد الدستورية أولاً وأخيراً. هذا ما نحتاج إليه في مصر إذا ما أردنا تأسيس جمهورية جديدة تستجيب لحقائق عصرها وضروراته، تنهض بشعبها وتفسح المجال للمستقبل أن يتحرك.
 كان لافتاً في الدعوة الرئاسية المصرية لإجراء حوار وطني واسع تشارك فيه كل القوى والتيارات السياسية بلا استثناء وتمييز، حسب نص الدعوة، أنها اعتبرت الحوار مدخلاً لما أطلق عليها «الجمهورية الجديدة»، دون أن يكون واضحاً ما المقصود بالمصطلح نفسه.
لا يوجد تعريف واحد متفق عليه، هذا يستدعي التحديد والوضوح حتى يكون الحوار ممكناً وواصلاً إلى أهدافه.
 «هل تحتاج مصر جمهورية جديدة؟». هذا سؤال في الضرورات لا النوايا. الإجابة: «نعم».
 «أي جمهورية نريد؟». هذا سؤال آخر تحتاج إجابته إلى اجتهادات تحاول بقدر ما تستطيع أن تؤسس لنظرة أخرى إلى المستقبل.
 في اعتقادي بأنها «الجمهورية الدستورية»، التي تلتزم القيم الأساسية لدستور 2014 في الفصل بين السلطات وتبادل السلطة بالوسائل السلمية وتوسيع الحريات العامة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
 بصياغة أخرى، إنها الاستجابة لطلب بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي تبنتها ثورتا يناير2011 ويونيو 2013، دولة الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، دولة القانون والمواطنة وعدم التمييز.
 بقوة الحركة إلى المستقبل سوف يتم التحول إلى «جمهورية جديدة» طال الزمن أو قصر.
 معضلة مصر الحقيقية أن لها إرثين متناقضين في النظر إلى الدستور. هي أول من أطلت في العالم العربي على الدساتير الحديثة، نصوصها وفلسفتها وأسس الحكم الرشيد وبدت تجاربها ملهمة.. وهي في الوقت نفسه من أكثر دول العالم تلاعباً بالدساتير وانقلاباً عليها.
 كان دستور 1923 الإنجاز الأهم لثورة 1919، غير أنه كان منحة من الملك فؤاد الأول بهدف احتواء الثورة الشعبية، وقد جرى إلغاؤه عام 1930 واستبداله بدستور آخر حتى عاد للحياة من جديد تحت ضغط الحركة الوطنية المصرية.
 في ظل حكم يفترض أنه ملكي دستوري لم يتسن ل«الوفد»، حزب الأغلبية الشعبية بلا منازع، أن يحكم البلد سوى لسنوات معدودة تزيد قليلاً على عدد أصابع اليد الواحدة.
 شهدت مصر في ذلك الوقت سلسلة من الانقلابات الدستورية أفضت تداعياتها إلى إطاحة النظام كله بثورة يوليو 1952.
 بقوة التغيير وضروراته في عالم جديد ولد بعد الحرب العالمية الثانية حكمت مصر ب«الشرعية الثورية». غابت الدساتير وحضرت الوثائق ك«فلسفة الثورة» و«الميثاق الوطني» و«بيان 30 مارس».
 إثر هزيمة (1967) جرت مراجعات واسعة للأسباب التي أفضت إليها، حاكم جمال عبد الناصر نظامه في مراجعات دعت إلى التعددية الحزبية ودولة المؤسسات وتبدت أفكار تدعو إلى الانتقال من «الشرعية الثورية» إلى «الشرعية الدستورية».
 بعد رحيله بعام واحد في سبتمبر 1971 استفتي الشعب على دستور أطلق عليه «دستور مصر الدائم»، لكنه أخضع لتعديلات جوهرية أدخلت عليه في عهدي الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك حتى جرى تشويهه بالكامل وتحول إلى ما يشبه «الخرقة» قبل تعطيله نهائياً إثر ثورة يناير2011.
 من أخطر التشوهات، التي نالت من روح ذلك الدستور وفلسفته، ما أدخله «السادات» في 22 مايو 1980 من تعديل عليه يسمح له بتمديد رئاسته دون سقف زمني!
 بذات القدر لم يتمكن مبارك بالتشوهات التي أحدثها على الدستور في 2007 من تصعيد نجله لرئاسة الدولة. أدخل في ذلك العام تعديلاً يسمح بإجراء انتخابات رئاسية مباشرة، دون أن تمس الصلاحيات شبه المطلقة للرئيس، أو تضمن نزاهة الانتخابات.
هكذا مضت التلاعبات بالدساتير إلى آخر مداها دون أن يتعلم أحد شيئاً من التجارب المريرة.
 بعد ثورة يناير حاولت جماعة «الإخوان المسلمين» الانفراد بوضع الدستور، وإلغاء أية شراكة، وتحويل البلد كله إلى دولة دينية، غير أن محاولاتها أخفقت بفداحة، وولد دستورها ميتاً.
 الدستور موضوع توافق وطني، عقد اجتماعي له صفة الإلزام والاحترام، إذا ما جرى التلاعب به تخدش شرعيته.
 المدخل الممكن الوحيد الآن: إنفاذ الدستور وتوسيع المجال العام وإطلاق سراح المحبوسين ممن لم يتورطوا في عنف أو إرهاب على خلفية قضايا رأي.
هذه مسألة شرعية تمتد جذورها إلى ثورتي «يناير» و«يونيو» في طلب التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة. إنها «الجمهورية الجديدة» التي نريدها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"