يبدو أن الغرب الذي لم يعط بالاً للتحذيرات الروسية المتكررة من مخاطر تمدد قوات الناتو شرقاً، وتهديد المصالح القومية لروسيا، والذي قاد في النهاية إلى الحرب في أوكرانيا، يكرر الآن وبزعامة الولايات المتحدة، نفس السيناريو مع الصين، ولا سيما في ما يتعلق بالعلاقات بين تايوان والصين، التي تتدحرج على ما يبدو نحو عمل عسكري صيني، حيث تؤكد بكين عزمها على ضم تايوان وإعادتها إلى الوطن الأم، باعتبار أن «مطالب استقلال تايوان كانت تياراً معاكساً للتاريخ ولا مستقبل أمامه»، حسب الرئيس الصيني.
وبدلاً من أن تأخذ الولايات المتحدة المواقف الصينية بعين الاعتبار، لاستنادها إلى حقائق تاريخية واضحة، نرى أنها تتبع نفس الأسلوب الذي انتهجه حيال روسيا، وكأن هناك مخططاً مرسوماً بدقة، لاستدراج كل من روسيا والصين، وحشرهما في زاوية، تحتم عليهما الدخول في صراعات مسلحة، الهدف منها، إرهاق الدولتين، وتوريطهما في حروب تستنزف طاقاتهما العسكرية والاقتصادية، التي يهدد تناميهما وتطورهما، الهيمنة الغربية على العالم.
وتأتي تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن التي أدلى بها مؤخراً في اليابان حول استعداد بلاده للتدخل العسكري لحماية تايوان في حال تعرضها للهجوم من قبل الصين، لتصب الزيت على النار في الأزمة بين الصين وتايوان.
ورغم أن عدداً من مساعدي بايدن تفاجأوا بهذه التصريحات، ورغم أن البيت الأبيض وبايدن نفسه أكدا فيما بعد أنه ليس هناك تغيير في السياسة الأمريكية تجاه تايوان، إلا أن التصريحات أثارت علامات استفهام حول ما إذا كانت واشنطن تعتزم الابتعاد عن سياستها المعلنة في هذا الشأن، كما أنها تأتي مناقضة للسياسية التي تنتهجها الولايات المتحدة منذ عقود، حيث تسعى واشنطن وعلى مدى عقود إلى اتباع ما يمكن أن يطلق عليه «الغموض الاستراتيجي» في مواقفها تجاه الصين.
وكما هو معروف يستخدم مصطلح «الغموض الاستراتيجي»، لوصف تعمد حكومة ما عدم الوضوح أو الضبابية في بعض جوانب سياستها الخارجية، لتفادي الوقوع في مواجهات فعلية، كما هي الحال في نهجها الذي تتبعه حيال الأزمة الأوكرانية، حيث تسعى إلى إطالة أمد الصراع الذي أوقدت ناره مع الدول الغربية، فتغدق بالمساعدات العسكرية على أوكرانيا، مع الحفاظ على هامش يضمن لها عدم الاكتواء بنار الحرب التي فجرتها،رغم أن هذه النار طالتها وطالت العالم بأسره، جراء التداعيات الاقتصادية، كارتفاع أسعار الوقود، وأزمات الغذاء المتوقعة.
ومن يتابع المشهد بين الصين وتايوان، يلاحظ بوضوح ذلك التشابه الكبير بينه وبين الأزمة الأوكرانية،حيث تعمل واشنطن على محاصرة الصين بكل الوسائل، ولاسيما العسكرية من خلال قواعدها المنتشرة حول الصين التي ترى فيها خطراً استراتيجياً من شأنه أن يقوض هيمنتها على العالم، وهو ما تدركه الصين جيداً، حيث إنها سرعان ما ردت على تصريحات بايدن مؤكدة أنه «لا مجال للتهاون في أمور تتعلق بسيادة الصين ووحدة أراضيها»، محذرة الولايات المتحدة من «اللعب بالنار».
ونلاحظ هنا أن العلاقات بين الصين وتايوان كانت قد بدأت تتحسن في الثمانينات. بعد طرح الصين صيغة تعرف باسم «دولة واحدة ونظامان» تمنح بموجبها تايوان استقلالية كبيرة إذا قبلت إعادة توحيد الصين، وهو ما رفضته تايبيه بتحريض من واشنطن، ولا سيما بعد وصول الرئيسة الحالية لتايوان تساي إنغ ون إلى الحكم في عام 2016 والتي تدعم سياسة الاستقلال الرسمي النهائي عن الصين.
ويظهر التماهي بين الموقف الأمريكي والسياسة التي اتبعتها تايوان، حيث إنه بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية لعام 2016، تحدثت إليه تساي عبر الهاتف في مكالمة مثيرة للجدل، نُظر إليها على أنها خروج عن السياسة الأمريكية الموضوعة في عام 1979، عندما قطعت الولايات المتحدة العلاقات الرسمية مع الجزيرة.
وعلى الرغم من الافتقار إلى العلاقات الرسمية، تعهدت الولايات المتحدة بتزويد تايوان بأسلحة دفاعية، وشددت على أن أي هجوم من جانب الصين من شأنه أن يثير «قلقاً كبيراً».
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل ستفرمل واشنطن من خطواتها العدائية لبكين؟، أم أنها ستمضي قدماً في الطريق نفسه الذي اتبعته ومعها دول الناتو مجتمعة تجاه روسيا، وتفجير صراع جديد ربما يكون أكثر خطورة من الأزمة الأوكرانية؟