هل هناك حرب هويات عالمية؟

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

هناك ما يشبه الإجماع من قبل الدول والمؤسسات البحثية وكبار المفكرين، على أن الحرب الروسية الأوكرانية هي أهم حدث عالمي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وأنها فتحت الباب أمام إعادة توصيف النظام الدولي برمته، وما يتضمنه من أزمات وتحدّيات وعدم يقين، خصوصاً أن هذه الحرب على الرغم من أنها شكلياً، تبدو بين بلدين جارين، لكنها في الحقيقة حرب متعددة الدلالات، فقد وضعت أمريكا وأوروبا الغربية ثقلها العسكري والاقتصادي، لمنع انتصار روسيا العسكري أولاً، والسياسي ثانياً (وهو الأهم)، أو الحدّ والتقليل من كمية ونوعية الانتصار الروسي، وبالتالي منع أي انتصار جزئي لروسيا من التحوّل إلى انتصار ذي مغزى استراتيجي.
 في ذاكرة القرن العشرين التي لا تزال حاضرة بقوة في عالم التاريخ السياسي، ومؤثرة في قراءة مجريات الأحداث في قرننا الحالي، هناك الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية كعنوان عريض وأساسي، وهذا العنوان الكبير حمل في طياته العديد من الصراعات، في مقدمتها صراع الهويات، بين غرب «ليبرالي ديمقراطي» وبين شرق (الاتحاد السوفييتي والصين والكتلة الشرقية) يقوم على حكم «الحزب الواحد»، وأيديولوجيا صلبة هي الأيديولوجيا الماركسية، بنسخها المختلفة. 
وقد أفضى هذا الصراع إلى حرب باردة انتهت بانهيار العالم الاشتراكي كما كان، وحدوث تحوّلات في الصين سمحت لها بإقامة نموذج خاص، يدمج بين الليبرالية الاقتصادية، وبين نظام الحكم المركزي.
في صراع الهويّات تُبنى العصبية على ما يسمى «الخصائص المميزة» لكل طرف، فالهوية من حيث التعريف الأساسي هي مجموعة سمات مميزة لشخص أو مجموعة أو شعب أو نظام اقتصادي.. ويتضمن مبدأ الهوية نظرة جوهرية، تتعارض مع المبدأ المعرفي الذي يقول إن الهوية خاضعة للصراع والتحوّل، وبالتالي الهوية معرضة للهزيمة أمام هوية أخرى، وفي ميدان القرن العشرين، كانت موجة العولمة واحدة من النتائج المركزية لانتصار النظام الرأسمالي، وانتصار النموذج الليبرالي، لكن هذا الانتصار لم يتوّج بإعادة تشكيل نظام دولي جديد تتمكّن فيه «الدولة المركزية» في النظام الرأسمالي (أي أمريكا)، من قيادة النظام الدولي بشكل منفرد.
في الصراع الحالي الدائر في الجغرافيا الأوروبية التي شهدت حربين عالميتين، هناك موجة جديدة من إعادة التنظير لصراع الهويّات العالمي، لكن هذه المرة يتم استبدال «النظام الاشتراكي» ب«الخصائص التاريخية»؛ أي استعادة القومية في مواجهة الرأسمالية المعولمة، أو ما يمكن تسميته ب«النيوليبرالية»، ويعبر العديد من السياسيين الروس عن هذه الرؤية في تصريحاتهم حول مجريات الحرب في أوكرانيا، وفي مقدمتهم رئيس مجلس النواب (مجلس الدوما الروسي)، فياتشيسلاف فولودين، كما أصبح هذا التحليل رئيسياً في مراكز البحث الاستراتيجي الروسي، ويظهر بشكل واضح في ما يصدر من تحليلات عن أكاديمية العلوم الروسية، و«معهد الاستشراق» التابع لها، الذي يترأسه الخبير المخضرم فيتالي نعومكين، وهذا الاتجاه التحليلي يعيد الصراع العسكري الحالي إلى محاولة النمط الغربي الليبرالي فرض إرادته، من دون أن يأخذ في الحسبان الروابط القومية للشعوب وسماتها الخاصة، من لغة وثقافة وعادات وروابط اجتماعية وتاريخية.
إن وضع رؤية للصراع تقوم على التناقض بين «النيوليبرالية» والقومية يمتلك مشروعيته الاقتصادية بالدرجة الأولى، من حيث كون العولمة نمطاً عابراً للقوميات، لكن في الوقت ذاته، يتجاهل نموذجاً أساسياً في سوق العمل الدولي، وهو النموذج الصيني الذي يقوم على تكييف النمط القومي مع ديناميات العولمة، كما أن هذه الرؤية تفترض أنه بإمكان أي نمط قومي أن يتجاهل ديناميات العولمة، أو يستثني نفسه منها، خصوصاً إذا كانت «الدولة القومية»  وفي حالتنا هذه هي روسيا  تطمح لأن تكون لها مكانة وازنة ومؤثرة في النظام الدولي، وسوق العمل الدولية.
بطبيعة الحال، إن قوة الاتجاه العولمي في المجالات كافة، طرحت أسئلة وتحدّيات على الأنماط الاقتصادية غير العولمية، وعلى الهويّات القومية الكبيرة والصغيرة، على حدّ سواء، لكن هذا شيء مختلف من حيث النوع عن حدوث صراع عالمي بين نمط اقتصادي وبين هوية قومية ما، فالنمط الاقتصادي العولمي عابر للقوميات، بينما الهوية القومية محددة بحيز جغرافي وتاريخي.
فرضت العولمة منظومة قيم قد لا تكون كلها في حالة انسجام في ما بينها، لكن الطابع القومي ليس هو الأساس فيها، وإذا كان هناك ثمة من صراع، فهو صراع في إطار التكيّف أو الرفض. وفي هذا السياق، فإن المسألة لا تتعلق مباشرة بحرب بين الهويّات، خصوصاً في الحرب الراهنة، وإنما بصراع ضمن النمط الرأسمالي «العولمي» نفسه، وهو ما قد يدفع طرفاً ما للاستعانة بمبدأ الهوية، لضرورات تعزيز الجبهة الداخلية، لكن ليس لكونه هو المحرك الرئيسي للصراع.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"