مصر والألغام

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

نجحت انتفاضة الشّعب المصريّ، في 30 يونيو 2013، في إسقاط نظام محمد مرسي وانتشال البلاد من حكم الطّغيان. ولم تلبث الدّولة والجيش والشّعب أن نجحت في إنهاء بؤر الإرهاب التي فُتِحت في القاهرة والمدن المصريّة، وفي التّقدّم في محاصرة توسُّعه في ساحته الرّئيس التي اختارها له حُماتُه (شمال سيناء). جرى ذلك بتضحيّات بشرية وعسكرية واقتصادية جسيمة، لكنّ ذلك كان في جملةِ ضرائبَ لم يكن أمام مصر سوى أن تدفعها صوناً لأمنها وسيادتها، ودفاعاً عن استقرارها السّياسيّ.

 أُريدَ بمِصْرَ شرٌّ منذ البداية؛ منذ اكتملت أركان برنامج «الفوضى الخلّاقة» واستقرّ تقدير مهندسيها على أنّ أَفْعَل أدوات الفَتْك بالبلد المستهدَف هي قواهُ الدّاخلية نفسها. وكانت القوى هذه جاهزة - من أسفٍ شديد - لتأدية ما يُطْلَب منها مقابل إيصالها إلى السّدّة؛ بل كان عليها أن تستكمل - وهي في موقع السدّة ذاك - ما كانت قد شرعت فيه من أفعال الفتكِ والهدم والتّفكيك لكلّ تراث مصرَ الوطني والعربي، ولكلّ مكتسبات التّحديث والنّهضة فيها منذ عصر محمّد علي.

 وما اختيرت مِصْرُ كي تكون حقْلَ اختبارٍ لهذا المشروع اعتباطاً؛ بل لِعِلْم من اختاروها بمكانتها المركزيّة في محيطيْها العربي والإسلامي، وبالمعادلة الوجوديّة التي تشُدّ ذلك المحيط إليها وتشدُّها هي إليه: سقوطه من سقوط مِصْر ونهوضه واستقامة أمره من نهوضها واستقامة أمرها. وعلى أخذها غيلة - من قِبل مهندسي المشروع وعَمَلَتِه المَحلّيّين الصغار - كان التّعويل، لتكون تلك عتبة الافتتاح نحو الإمساك بمصائر البواقي لإعادة تشكيلها على المنوال النّيوكولونياليّ المبتَغى.

سُقِطَ في أيدي جلاوزة المشروع الكولونياليّ وأدواتهم المحلّيّة، وخاب مسعاهم حين نهضت مِصْرُ من كبْوتها ونظَّفت داخلها من القاذورات فانطلقت من جديدٍ تشقّ الطّريق غيرَ هيّابة ولا ناكسة، تَنْشُد الغَدَ الأفضل، وقد تعلَّمت الدّرسَ من نكبةٍ ألمّت بها. لكنّ الخاسرين الخاسئين لم يفْرنْقِعُوا عنها فيتركوها تقطع سبيلها بسلام؛ فقد كانوا لِقَوْمتها من وهْدتها بالمرصاد، متحيّنين فرصاً أخرى ثأراً لخيبتهم ومناسبة للإيقاع بها من جديد. وفي الأثناء، كانت أزمتان قد فُتِح بابُهما وبدأتا تُنْذران بالنّيْل من مصر ومن أمنها؛ أمنها الاقتصاديّ والغِذائيّ وأمنها القوميّ. إنّهما سدّ النّهضة الإثيوبيّ، وتحوُّل ليبيا ساحةً للإرهاب - بعد سقوط الدّولة فيها - وتهديده أمن مِصْرَ من حدودها الغربيّة المتاخمة للشّرق اللّيبيّ.

 كان واضحاً لمِصْرَ الدّولة والشّعب أنّ مَن أرادوا بأمنها شرّاً هم أنفسهم من يقفون خلف فتح ثغرين جديدين في جنوبها والغرب. ولقد تكون خيوط مؤامراتهم، هنا، أَحْبَكَ في الإتقان وأفْتَك.

 مع ذلك؛ مع شدّة وطأةِ هذه «النّازلة» على مصر، أمسكت أعصابها بشجاعة، ولم تَنْسَق وراء نداءِ غريزة البقاء المشروع؛ بل أبْدَت صبْراً ومصابَرةً وتبصُّراً في المطالبة بحقوقها، وسلكت في ذلك السُّبل القانونيّة المشروعة؛ فَدَعَتِ الخصمَ إلى حوارٍ يعيد قِسْمةَ الحقوق بالقِسطاس، وأبْدَتِ الاستعداد لتفهُّم حاجاته. وحتّى حينما ردَّ مسعاها بالمَطْل والتّسويف، أو بفرض الأمر الواقع (المَلْء الأوّل ثمّ الثّاني)، لم تَخْرُج عن طورها ولا ردّت ارتكابَه بما يستحقّه، وإنّما حكَّمَتِ الأمم المتّحدة والقانون الدّوليّ والمنظّمات الإقليميّة في المسألة من غيرِ أن تُسْقِط حقّها في الردّ، عند الاقتضاء.

 وعلى نحو ما دُفِع خصْم مِصْرَ إلى التّصعيد من جنوب الجنوب بالإقدام على إجراءاتٍ أحاديّة، قصْد إفقاد مِصْرَ صبرَها وجرِّها إلى المواجهة، كذلك دُفعتِ الجماعاتُ المسلّحة في شرق ليبيا إلى استفزاز مصر واستدراجها إلى المستنقع اللّيبيّ. 

 وكان المايسترو، في الحالتين، واحد وبُغيته من تحريك دماه وأدواته واحدة. غير أنّ مِصْرَ ما مَكّنتْهُ من رؤيتها تُسْتَدرَج إلى فخاخٍ منصوبة لها بعناية، ولا بارحت موقفها البَصير الذي تمسّكت به واعتصمت برباطةِ جأشٍ وثقةٍ بالنّفس مستمدّةٍ من تجاربها مع الأهوال ومن خبرة التاريخ والميراث الحضاريّ العظيم.

 وإذ أَفْلَتَتْ مِصْرُ - من حظٍّ حَسَن - من لغميْن مزروعيْن على حدود كيانها، لم تتراجع تكتيكياً عن انتزاع حقوقها بيدها إلاّ كما يتراجع السّهم في القوس كي ينطلق. وليس معنى ذلك أنّه سيكون عليها أن تُقْدم على استخدام القوّة ضدّ من يتربّصون بها؛ بل يكفيها إشعارهم بالقوّة كي يرتدعوا؛ ففي مصر «إنّما للصّبر حدود» حكمةٌ تغنّيها وتعمل بها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"