عادي
لوحة تحتشد بصور البطولة

«الحروب الغالية».. الرسم مدونة المعارك الكبرى

23:14 مساء
قراءة 4 دقائق
202

الشارقة: علاء الدين محمود
لعبت الفنون دوراً عظيماً في رصد وتوثيق الأحداث التاريخية الكبيرة، وهي إذ تفعل ذلك، تعمل في ذات الوقت على اتخاذ موقف من الوقائع التي حدثت في الماضي عبر تفسيرها وتقييمها من أجل أن تستفيد البشرية. الفنان الفرنسي ليونيل نويل روير، «1852 1926»، يعتبر من أبرز الرسامين الذين اشتهروا برسم الأحداث والمشاهد التاريخية، كما عرف بلوحاته المقتبسة من حياة «جان دارك»، إضافة إلى كونه رسام بورتريه، وهو كذلك يعتبر تلميذاً لكل من ألكسندر كابانيل وويليام أدولف بوجيرو اللذين اشتهرا وعرفا برسم الموضوعات التاريخية والكلاسيكية والدينية بالأسلوب الأكاديمي، وهما أبرز وجوه الفن في القرن التاسع عشر.

برع روير في رسم المعارك والحروب بصورة خاصة، التاريخية والتي عاصرها، ولعل ما ساعده في تلك البراعة أنه قد شارك في حروب حقيقية، حيث إنه قد تطوع قبل أن يبلغ ال18 من عمره في الحرب الفرنسية البروسية وشارك في معركة شهيرة في عام 1870 تحت قيادة الجنرال كوناتري الذي أعجب بموهبته الفنية فقام بتمويل دراسته في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، وحاز العديد من الجوائز مما يؤكد مكانته البارزة.

لوحة «الحروب الغالية»، أو «فرسن جتريكس»، هي أشهر أعمال روير على الإطلاق، وهي تصور مشهد مفصلي من الحروب الغالية والتي هي عبارة عن سلسلة من الحملات العسكرية التي شنها القائد الروماني الشهير يوليوس قيصر ضد العديد من القبائل الغالية، ومصطلح «الغاليّة» باللغة اللاتينية يعني «الكلتيون»، حيث أسست تلك القبائل مع أجناس أخرى الاتحاد الفيدرالي الذي عرف بدولة كلت أو اتحاد قبائل كلت، وقد استمرت حرب روما ضد القبائل الغاليّة من عام 58 إلى عام 50 قبل الميلاد، وبلغت ذروتها في معركة أليسيا الحاسمة عام 52 قبل الميلاد، التي شهدت انتصاراً مؤزراً للرومان بعدَ هَزيمتهم في معركة جرجوفيا أدى إلى توسع الجمهورية الرومانية في جميع أنحاء منطقة الغال التي تمتد حالياً في فرنسا وبلجيكا، ومهدت هذه الحروب الطريق ليوليوس قيصر ليصبح الحاكم الوحيد للجمهورية الرومانية.

وقد جرى الكثير من الحديث عن تلك الحروب، فعلى الرغم من أن قيصر صور هذا الغزو على أنه عمل تحفظي ودفاعي، ذهب معظم المؤرخين على أن هذه الحروب كانت في المقام الأول لدعم الوضع السياسي لقيصر وسداد ديونه الضخمة، وظلت بلاد الغال ذات أهمية عسكرية كبيرة بالنسبة للرومان، حيث كان الرومان يتعرضون للعديد من الهجمات من القبائل المحلية سواء من قبل السكان الأصليين في بلاد الغال أو القبائل الأخرى القاطنة في الشمال، وقد أدى غزو بلاد الغال إلى السماح لروما بتأمين الحدود الطبيعية لنهر الراين.

أهمية تاريخية

تكتسب تلك الحروب أهمية تاريخية، ودائماً ما يتم التركيز على القائدين الروماني يوليوس قيصر، وفرسن جتريكس قائد قبائل الغال وموحدهم والذي أعدم شنقاً في روما، والذي عرف بالدهاء والمكر والشجاعة، واستطاع أن يهزم الرومان هزيمة نكراء في معركة «جرجوفيا» وقتل أكثر من خمسين قائداً من قادة الرومان، وتنبع أهمية معركة «جرجوفيا» في أنها قد هزت كثيراً من شخصية يوليوس قيصر والذي كان يتم تصويره على أنه القائد الذي لا يقهر، وكان لذلك الأمر تأثيره الكبير على نفسية قيصر الذي أصر على تجميع جيوشه من أجل أن يهزم جتريكس، وهو الأمر الذي تحقق أخيراً في معركة أليزيا الفاصلة.

ألهمت تلك المعارك التاريخية الشهيرة روير وحركت فيه الهمة الإبداعية نحو إنجاز عمل فني فريد يعتبر من الأيقونات الجمالية، فهو في هذه اللوحة التي رسمها في عام 1899، يرصد اللحظة الأخيرة للحرب ومشهد استسلام الغاليين بقيادة فرسن جتريكس، للقوات الرومانية بقيادة يوليوس قيصر، في معركة «أليزيا»، بعد حرب ضارية وطويلة سنة 52 قبل الميلاد، حيث أحضر قيصر زعماء قبائل الغال أمامه وأمرهم بتسليم أسلحتهم جالساً على رأس الصفوف أمام المعسكر.

تفاصيل

اللوحة تشهد على البراعة الكبيرة التي عرف بها روير في التصوير الدقيق للوقائع التاريخية، حيث ركز في اللوحة على مشهد القائد الغالي جتريكس وهو على صهوة جواده الأبيض، ويرمي بدرعه تحت أقدم يوليوس قيصر علامة على الاستسلام، وعلى الرغم من تلك الوضعية يظهر جتريكس في اللوحة وهو على جواده وهو مرفوع الرأس، بينما يجلس قيصر، وهو يرتدي درع الحروب الروماني، بصورة تشير إلى الانتصار ويبدو ذلك جلياً من خلال نظراته الموجهة لقائد الغاليين، بينما يقف خلفه وإلى جانبه، مجموعة من القادة الرومان الذين تظهر على وجوههم علامات النشوة بالانتصار الذي تحقق، فيما يقف خلف جتريكس مجموعة من الأسرى الغاليين وهم مقيدون بطريقة يظهر فيها الانكسار، وتكمن براعة الفنان في صناعة مشهد تبدو من خلالها المعركة وكأنها قد انتهت لتوها، حيث يبدو الغبار في الأفق، وفي الخلفية تظهر بصورة ضبابية آثار مدينة مدمرة ترتفع في أفقها ألسنة النيران، وتتضح براعة الفنان بصورة أكبر من خلال توزيعه للألوان ودرجاته من ساطع إلى خافت وداكن الأمر الذي يجعل الناظر وكأنه في قلب تلك المعركة بكل تفاصيلها وأحداثها المحتشدة بالبطولة.

معلومات ومصادر

تم وصف تلك الحروب الغالية من قبل يوليوس قيصر نفسه في كتابه المعروف باسم «تعليقات على الحرب الغالية»، والذي يعتبر سجلاً وثيق الصلة بالحرب، على الرغم من تحيزه الواضح، حيث يظهر قيصر نفسه في ذلك المؤلف كقائد صاحب قيم وأخلاق ومواقف إنسانية من أجل صناعة هالة حول شخصيته، غير أن الكتاب في المجمل يُعد أهم المصادر التاريخية المتعلقة بذلك الصراع، حيث لم تتبق سوى مصادر قليلة جداً عن الحروب الغالية، إذ لم يسجلوا تاريخ شعوبهم سابقاً، وبالتالي فإن عادات الغال وتقاليدهم قد ضاعت مع مرور الوقت، لتظل كتابات يوليوس قيصر المصدر الرئيسي للمعلومات، ما عقد مهمة المؤرخين لأنها منحازة لصالحه، وعلى الرغم من وجود عدد قليل من الأعمال المعاصرة الأخرى تشير إلى الصراع ولكن لا يوجد شيء متعمق مثل عمل قيصر، حيث تعد حقيقة أنه غزا بلاد الغال أمر مؤكد، ومع ذلك، فإن التفاصيل أقل وضوحاً.

الصورة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yphue4ut

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"