الأزمة في ليبيا وسيناريوهات المستقبل

00:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. صلاح الغول *

تعثر إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ديسمبر/كانون الأول 2021؛ بسبب وجود «قوة قاهرة»، بحسب المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا. والمقصود ب«القوة القاهرة»، على الحقيقة، هو الوضع الأمني المضطرب والانقسام السياسي المزمن وإحساس الليبيين بالخوف على أنفسهم. ومنذ ذلك الوقت، ولجت ليبيا مرة أخرى في متاهة سياسية، وعاد الفرقاء السياسيون والمسلحون إلى المربع الأول في الصراع. وما أشبه الليلة بالبارحة.

1- المتاهة السياسية الليبية:

في فبراير/شباط 2022، سحب مجلس النواب، الثقة من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة؛ لفشلها في تحقيق مهمتها الأساسية، وهي إجراء الانتخابات، وتم تكليف حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا. ومن ثم، استأنفت البلاد مرحلة جديدة من الصراع السياسي بين الحكومة الجديدة وداعميها في مجلس النواب والجيش الوطني الليبي، وحكومة الدبيبة وداعميها من الميليشيات المسلحة في العاصمة والغرب الليبيين.

وإضافة إلى إصرار كل منهما على أنها تمثل الشرعية الوطنية، تتعمد الحكومتان المتصارعتان إلى تعزيز تحالفاتهما في الداخل والخارج؛ استعداداً ل«جولة الحسم». وقد بدأت إرهاصات هذه الجولة مبكراً بالمصادمات المسلحة بين قوات تابعة لحكومة باشاغا وميليشيات تابعة لحكومة الدبيبة بضواحي طرابلس في مايو/ أيار المنصرم. وتجددت الاشتباكات الدامية في طرابلس، في 27 أغسطس/ آب الجاري، بين قوات موالية للحكومتين؛ خلّفت نحو 160 بين قتيل وجريح. وهذا المسار هو نفسه الذي سلكته الأطراف الليبية المتناحرة في الفترة (2014-2020)، من دون أن يسفر عن أية نتيجة لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.

ولا يقتصر الانقسام في ليبيا بين الحكومتين على الجانب السياسي؛ بل يشمل جوانب أخرى بما فيها الجوانب الجيوسياسية والاقتصادية.

فجيوسياسياً، يتركز الصراع بينهما على مناطق النفوذ، والسيطرة في المنطقة الغربية، بينما تخضع المنطقتان الشرقية والجنوبية لقوات المشير حفتر، لكن تغيّر التحالفات بين الكتائب الليبية أمر شائع، ومن ثم ليس من المستبعد أن تتغير خريطة السيطرة والنفوذ تبعاً لذلك. واقتصادياً، يحاول كل طرف السيطرة على الحقول والمنشآت النفطية، ويتم استخدام قطاع النفط، ورقة سياسية بين الأطراف المتناحرة، فضلاً عن أنه لم تُقر الموازنة العامة للدولة حتى الآن؛ مع ما يستتبع ذلك من تردٍ لمستوى الخدمات الأساسية للمواطنين.

2- تصاعد الدور السياسي للجماعات المسلحة:

غدت المصادمات بين الميليشيات على مناطق النفوذ أمراً معتاداً في الغرب الليبي، وتؤكد هذه المصادمات أنّ الميليشيات هي المشكلة الأولى والرئيسة أمام حل الأزمة الليبية، ولا مناص من تفكيكها.

وفي الأشهر الأخيرة، ازدادت قوة الميليشيات كثيراً، وباتت الأوضاع السياسية مرتهنة لنفوذها؛ لدرجة أنه يمكنها ترجيح كفة طرف سياسي على آخر، ولاسيما أنه لم يتم حتى الآن توحيد المؤسسة العسكرية.

ومن المفارقة أنه لم يكن هناك أي نقاش جاد حول نزع سلاح الميليشيات، وإمكانية إعادة اندماجها في المجتمع. وقد دعمت البعثة الأممية مبادرة منتدى الحوار السياسي الليبي لإنشاء لجنة عسكرية مشتركة، ومحاولة توحيد الأطراف العسكرية المختلفة في ليبيا. ولكن لم يسفر اجتماع اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في القاهرة، في يونيو/حزيران 2022، عن أي تقدم. وبالمجمل، لا توجد استراتيجية واضحة لنزع السلاح في بلدٍ يملك فيه الأشخاص أكثر من 20 مليون قطعة سلاح.

3- محادثات القاهرة، لم يحدث أي اختراق:

اجتمع ممثلون عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في جولات ثلاث من المحادثات بالقاهرة (إبريل/نيسان- يونيو/حزيران 2022)؛ بهدف وضع إطارٍ دستوري، تمهيداً لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية على أساسه. وقد تم التوافق بين الفريقين، اللذين يحظيان بتأييد الحكومتين المتصارعتين شرقي ليبيا وغربيّها، وبرعاية الأمم المتحدة وبدعمٍ مصري وإقليمي، على أكثر من 70% من مسودة الدستور المقترح. بيد أنّ المحادثات انفضت من دون تحقيق توافق حول ما تبقى من نقاط الخلاف بشأن المواد الخاصة بالسلطتين التشريعية والقضائية.

وفي الرابع من أغسطس/ آب الجاري، اجتمع عقيلة صالح رئيس مجلس النواب، وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة، لاستكمال مشاوراتهما السابقة في جنيف، حول ما تبقى من نقاط الخلاف بشأن «المسار الدستوري». ولكن لقاءهما في القاهرة فشل في تجاوز الخلاف حول الموقف الدستوري من مزدوجي الجنسية، ومشاركة العسكريين في التصويت بالانتخابات.

4- أي مستقبل ينتظره الليبيون؟

في يوليو/تموز الماضي، أصبحت عدة مدن ليبية مسرحاً لاحتجاجات شعبية عنيفة، ولاسيما في طبرق. وتعود أبرز أسباب تجدد الاحتجاجات الشعبية في ليبيا إلى استمرار تدهور الوضع الاقتصادي، والتزايد المطرد في معدلات الفساد، وتردي مستوى الخدمات الأساسية.

وما تزال الأسباب الكامنة وراء احتجاجات يوليو قائمة. وعندما يُضاف السخط الشعبي إلى ردود الفعل المحتملة من الميليشيات الموالية لحكومة الدبيبة في مواجهة دخول باشاغا طرابلس، يمكن أن يُطلق ذلك العنان للجحيم في العاصمة، فيما قد تنتشر الاحتجاجات الشعبية في جميع أنحاء البلاد.

وهكذا، لا يمكن في ظل هذه الأوضاع تنظيم انتخابات قريباً؛ ف«القوة القاهرة» التي تحول دون تنظيمها ما زالت قائمة، والوضع الأمني متدهوراً، والانقسام السياسي مزمناً، وخوف الليبيين متنامياً. وهكذا وصفت ستيفاني ويليامز، المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا، قبل مغادرتها منصبها في يوليو المنصرم، أن إجراء الانتخابات في ليبيا نهاية هذا العام هو ضرب من الأماني.

وفي الأخير، أجزم أنّ التوافق بين مجلس النواب ومجلس الدولة وحكومتي البلاد هو مفتاح تسوية الأزمة الليبية، وأنّه لن يتم إلا بتدخل المجتمع الدولي بمبادرة سياسية شاملة تطرحها الأمم المتحدة وتتوافق عليها القوى الكبرى، أو بمساعٍ حميدة يبذلها شيوخ القبائل الليبية غير المنحازين لهذا الطرف أو ذاك، على مثال الباشا صالح الأطيوش، شيخ قبيلة المغاربة، وأحد حكماء ليبيا ورجالها المخلصين، الذي ترجل منذ أسابيع، رحمه الله، في وقتٍ كانت البلاد في أشد الحاجة إلى حكمته وإخلاصه.

* متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ype84ffs

عن الكاتب

كاتب متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الجيوسياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"