غورباتشوف ومغامرة «البريسترويكا»

00:53 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. إدريس لكريني

رحل ميخائيل غورباتشوف قبل أيام، ويبدو أن الجدل ما زال يلاحق سياساته ميتاً؛ كما كان حياً، اعتباراً لكونه آخر رئيس للاتحاد السوفييتي المنهار، ومهندس «البريسترويكا» التي عجلت بهذا الانهيار.

بعد رحيله، تباينت ردود الفعل حول هذه الشخصية، ففي الوقت الذي حمّله الكثير من الروس المسؤولية عن انهيار الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الشرقي، بفعل «السياسات المرتجلة والمتسرعة» التي قادها في إطار محاولة إصلاح الأوضاع المتراكمة على امتداد عقود عدة، معتبرين أن حصوله على جائزة نوبل للسلام في عام 1990 كان لتشجيعه على تكريس الأحادية القطبية الأمريكية،فقد أثنى العديد من القوى الغربية، على الجهود التي أرساها في سبيل تحقيق السلام، وتجنيب العالم ويلات الحرب الباردة، وسباق التسلح.

عندما تولى غورباتشوف رئاسة الحزب الشيوعي السوفييتي في مارس/ آذار عام 1985، كان الاتحاد السوفييتي يعيش مشاكل وإكراهات عدة، فعلى المستوى الداخلي، بدا أن موسكو التي كسبت مجموعة من المعارك الاستراتيجية، كغزو الفضاء، وسباق التسلح، واستقطاب عدد من الدول سواء في محيطها القريب، أو عبر مناطق مختلفة من العالم، لم تتمكن من مسايرة الغرب، بخاصة على مستوى تحقيق الرفاه الاجتماعي، وتحقيق التنمية بمفهومها الشامل.

أما في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، وبحكم الإفراط في المقاربة المركزية وغياب المحفزات، فقد سجلت المؤشرات تراجعاً خطيراً، خصوصاً مع تخصيص ميزانيات ضخمة للمجال العسكري الذي كان يلتهم نسبة تصل إلى 14 في المئة من الناتج القومي للبلاد، ما انعكس على متوسط الدخل الفردي الذي تراجع بشكل كبير، كما انخفضت قيمة العملة، بسبب الانخفاض الكبير الذي شهدته أسواق النفط الدولية، ما ساهم في انتشار الفقر، كما تصاعدت المطالب القومية الرامية إلى الانفصال.

أما على المستوى الخارجي، فقد كانت هناك مؤشرات واضحة تبرز أن كلفة الحرب الباردة، بمظاهرها العسكرية والاقتصادية والإديولوجية؛ ضخمة بالنسبة إلى موسكو ودول أوربا الشرقية التي كانت تسبح في فلكها.

إن تصاعد سباق التسلح الذي وصل حدّ إطلاق الرئيس الأمريكي السابق «رونالد ريغان» مبادرة الدفاع الاستراتيجي، أو ما سمي حينها ب«حرب النجوم» التي تقوم على تطوير نظم الدفاع الصاروخي وتعزيزه بتقنيات حديثة، في سياق ردع أي هجوم يستهدف أمن الولايات المتحدة، كان له الأثر الكبير في إرهاق الاتحاد السوفييتي، ودفعه إلى الدخول في مفاوضات مع واشنطن بشأن الحد من التسلح.

وفي عام 1986 وقعت كارثة خطيرة في محطة «تشيرنوبيل» للطاقة النووية في شمال أوكرانيا، التابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً، إثر انفجار وقع في الوحدة الرابعة للمحطّة، بسبب مجموعة من الأخطاء البشرية المتراكمة، ما أسفر عن إغلاقها نهائياً فيما بعد، وقد قدرت الخسائر الناجمة عن الأمر بأكثر من ثلاثة مليارات دولار، وسقوط عدد كبير من الضحايا، بين وفيات ومصابين.

وبالموازاة مع الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية التي شهدتها مجموعة من دول أوروبا الشرقية، شهدت سنة 1989 حدثاً عالمياً بارزاً، وتعلق الأمر بسقوط جدار «برلين» الذي كان يعتبر أحد معالم ورموز الحرب الباردة، قبل أن تتوحد الألمانيتان (الغربية والشرقية) في العام التالي.

وفي غمرة هذه الأجواء التي تلاحقت فيها الأحداث الكبرى بشكل متسارع، وصل «غورباتشوف» إلى سدّة الحكم كرئيس للاتحاد السوفييتي في عام 1990، وحاول من خلال سياسة «البريسترويكا» التي اقترحها كحل للمعضلات المختلفة التي أصابت الاتحاد السوفييتي، فهم أسباب وخلفيات أزمة النظام الاشتراكي، كما طرح مجموعة من المداخل التي اعتبرها كفيلة بإنقاذ الوضع، عبر اعتماد تدابير داخلية مرتبطة بإعادة البناء بكل جرأة، والحد من البيروقراطية وتغوّل الدولة، وإرساء التعددية الحزبية، وتعزيز المشاركة السياسية، ودعم الحريات الاقتصادية والسياسية وإصلاح نظام التعليم، وأخرى خارجية متصلة في جزء كبير منها بالانفتاح والانخراط في الاقتصاد الدولي وتشجيع الاستثمارات، وتبنّي التعايش السلمي والحرص على تجنيب العالم كوارث نووية.

وعندما بدأ باعتماد هذه الإصلاحات الجذرية في سياق برنامج لإعادة بناء الاقتصاد السوفييتي، وسياسة «الغلاسنوست» التي تحيل إلى الشفافية والانفتاح، كانت الأحداث المتسارعة تتجاوزه تباعاً، بعدما تدهورت الأحوال المعيشية للمواطن، وحدوث محاولة انقلابية قادها ضدّه «بوريس يلتسين» في عام 1991، ثم إعلان عدد من الجمهوريات من جانب واحد استقلالها عن الاتحاد، ليعلن غورباتشوف يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1991 استقالته، وتسليم كل السلطات الدستورية ومفاتيح المنظومة النووية إلى الرئيس الروسي يلتسين، وفي اليوم التالي اعترف مجلس السوفييت الأعلى باستقلال الجمهوريات السوفييتية السابقة، ليطوي بذلك وللأبد صفحة الاتحاد السوفييتي كموضوع للقانون الدولي، ويفسح المجال واسعاً أمام الانفراد الأمريكي بالساحة الدولية.

حقيقة، أن غورباتشوف قاد بإصلاحاته مغامرة غير محسوبة العواقب، عندما أصرّ على الجمع بين الإصلاحات الاقتصادية والسياسية في الوقت نفسه، ولم يتعامل بالجدية والصرامة المطلوبين مع التوجهات الانفصالية التي قادتها الكثير من الجمهوريات، لكن الكثير من الأحداث والمؤشرات كانت تكشف تباعاً أن الوضع أضحى خارج السيطرة، ولا يحتمل الوصفات المستعجلة، وأن الاتحاد السوفييتي كان يتجه لا محالة نحو الزوال.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ynus66hk

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"