الأفول الفرنسي في إفريقيا

00:52 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. إدريس لكريني

تعيش القارة الإفريقية على إيقاع مفارقة كبيرة، ففي الوقت التي تؤكد فيه الكثير من المعطيات احتضانها مكونات ومقومات تجعلها على رأس الفضاءات الأكثر غنى على المستوى الحضاري بتعددها، الثقافي والديني واللغوي، وإمكاناتها وثرواتها الطبيعية، بوجود احتياطات كبيرة من النفط والغاز والمعادن النفيسة، كالذهب والماس والكوبالت واليورانيوم، ضمن مساحة تتجاوز 30 مليون كيلومتر مربع، تتنوع بين الجزر والجبال والسهول والغابات، وبقوة بشرية تتجاوز المليار و200 مليون نسمة يحتل فيها الشباب نسبة مهمة مقارنة مع المتوسط العالمي.. ما زالت الكثير من الدول الإفريقية تعيش على إيقاع الفقر والصراعات الداخلية وعدد من الإشكالات التي تعرقل مسارات التنمية.

فمعدل الربط بالكهرباء ما زال ضعيفاً، فيما تتهدد المجاعات وسوء التغذية عدداً من الدول الأخرى، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى مجموعة من الدول المتمركزة في منطقة الساحل والتي تعاني غياب البنى التحتية، وتفشي البطالة، وعدم التوفر على قنوات الصرف الصحي، وضعف التغطية الأمنية، وانتشار الجماعات المسلحة.

لا شك في أن هناك عوامل متداخلة تعمق الجرح الإفريقي، وتساهم في تكريس وضعية الهدر بكل أشكاله، وتمنع الشعوب الإفريقية من أن تنعم بالاستقرار والرفاه. فعلاوة على المستعمر الذي نهب الخيرات، وخلّف الكثير من المشكلات الحدودية، وكرس التبعية بعد خروجه العسكري، وعودة شركاته الاحتكارية إلى المنطقة، هناك عوامل أخرى ترتبط في مجملها، بانتشار الفساد، وغياب الحوكمة، وعدم الاستقرار السياسي والأمني، وهجرة الكفاءات نحو الخارج..

حقيقة أن الكثير من دول القارة استطاعت أن تقطع أشواطاً مهمة على طريق تحقيق التنمية، وهو ما تعكسه معدلات النمو الاقتصادي التي بدأت تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في عدد من الدول، كما هو الشأن بالنسبة إلى رواندا وإثيوبيا ومدغشقر وتنزانيا وكينيا، ما ساهم إلى حد كبير في تغيير الصورة النمطية التي كانت متداولة حول إفريقيا خلال العقدين الأخيرين. ويرجع الكثير من الباحثين؛ المعاناة التي تعيشها الكثير من بلدان القارة، إلى إصرار بعض الدول على التعامل معها بخلفية استعمارية، ما ينطبق بشكل كبير على فرنسا التي وإن غادرت مستعمراتها السابقة عسكرياً، فقد ظلت توظّف الكثير من الآليات والتقنيات في سبيل بسط هيمنتها وتكريس تبعيتها لها، عبر سبل مختلفة.

وتبرز الكثير من الأحداث والوقائع أن هناك رغبة إفريقية جامحة للتخلص من النفوذ الفرنسي، وهو الخطاب الذي تتبناه العديد من النخب السياسية الجديدة، إضافة إلى جزء كبير من الأنتلجنسيا الإفريقية التي لا تتردد في كشف الكثير من التناقضات التي تطبع الخطابات الفرنسية الرنانة من جهة، والممارسات الواقعية التي تصل حد الابتزاز وإثارة النعرات والصراعات إزاء إفريقيا.

ظلت فرنسا تنظر إلى مستعمراتها السابقة، بقدر من التعالي، فيما لم تتوقف عن تكريس علاقات مبنية على الهيمنة والتحكم بأشكال مختلفة، رغم زوال الاحتلال، فقد حرصت على دعم عدد من النخب الحاكمة التي ظلت وفية لخدمة الأجندات الفرنسية وضمان مصالحها على عدة واجهات اقتصادية وأمنية وثقافية.

وتجد فرنسا اليوم نفسها أمام وضع إفريقي مغاير، يقتضي منها إعادة النظر في علاقاتها مع دول القارة، وهو ما يتردد باستمرار داخل عدد من المحافل الإقليمية، واللقاءات الثنائية التي تكون باريس طرفاً فيها، وقد برز ذلك بشكل واضح خلال أشغال مؤتمر القمة الإفريقية – الفرنسية، المنظمة أخيراً ب«مونبلييه» الفرنسية (سبتمبر/ أيلول 2022)، عندما طالب عدد من الشباب الأفارقة بإرساء علاقات جديدة تستوعب حجم التطورات الكبرى التي شهدتها إفريقيا، و«الحركات الجديدة» داخلها، وإلغاء الديون وسحب القوات العسكرية من القارة.

وإلى جانب هذه التحديات التي أصبحت تحيل إلى بداية أفول النفوذ والهيمنة الفرنسيين في إفريقيا، لا تخفى كذلك أهمية التنافس الدولي على القارة، والذي تقوده قوى دولية، كالصين والولايات المتحدة واليابان وروسيا، وإقليمية كتركيا والبرازيل، والتي لا تحمل خلفها تراكماً استعمارياً في القارة.

ورغم اعترافها أخيراً، بوجود ما تسمّيها «أخطاء» تعتري علاقاتها مع دول القارة، إلا أنها لم تنجح بعد في بناء علاقات متوازنة ومبنية على احترام سيادة الدول، فأمام فشل قواتها في الحد من الإرهاب في مالي ومنطقة الساحل الإفريقي، تعالت الأصوات الداعية إلى رحيلها.

وتؤكد هذه التطورات أن العلاقات الفرنسية – الإفريقية تعيش أزمة ثقة حقيقية، تقتضي من باريس إعادة ترتيب أوراقها وحساباتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc8dxexr

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"