قرب مئوية هيكل

00:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

بعد عام واحد بالضبط تهل مئوية الأستاذ «محمد حسنين هيكل» في (23) سبتمبر (2023). بتعدد أدواره اكتسبت تجربته فرادتها. بتعبير «سارميللا بوز» مديرة كلية الصحافة في جامعة أوكسفورد البريطانية العريقة، وهي تقدمه في أكتوبر (2007) لإلقاء أول محاضرة تذكارية بالكلية الوليدة، فهو «أسطورة حية».. ما كادت أن تصدق أنه أمامها الآن.

الاحتفاء بمئويته تكريس للمعنى والقيمة، أن الصحفي أبقى من السياسي والكلمة أقوى من السلطة، كما كان يعتقد دوماً. ظاهرته غير قابلة للتكرار، فهو ابن عصره ونتاج تحولاته ومعاركه.

لم يكن ممكناً كتابة التاريخ المعاصر والإلمام بأسراره وكواليسه دون إسهاماته في النظر إلى الحوادث الكبرى، التي مرت على مصر وعالمها العربي، من عواصف وثورات وتحولات وحروب وانقلابات مضادة عاصرها ووثقها وكتب شهادته عنها.

الاحتفاء بمئويته هو احتفاء بالذاكرة الوطنية وضرورة إحيائها بالبحث والتوثيق والحوار الجدّي في مواطن القوة والضعف، أسباب الصعود والانكسار.

كان قريباً من مركز صنع القرار على عهدي «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات»، حتى عام (1974) عندما افترقت الطرق، وذلك أتاح له أن ينظر من الداخل على حقائق القوة، لكنه لم يكن يعتبر نفسه مؤرخاً. فوق ذلك فهو مفكر أمن قومي لا يضارعه في عمق تأثيره على أجيال متعاقبة من العسكريين والدبلوماسيين أي أحد آخر. بخط يده وصفه المفكر الجغرافي الدكتور «جمال حمدان» ب«ابن مصر العظيم»، ربما لهذا السبب قبل أي شيء آخر.

الاحتفاء بمئويته إعادة تأكيد على الحقائق الأساسية في نظرية الأمن القومي، مفاهيمها وأسسها ومزالق تجريفها. ارتبط بتجربة «جمال عبدالناصر» ودافع عنها حتى النهاية.

قبل أن يداهمه المرض بيوم واحد استنكر بكل وجدانه ما بث على إحدى الفضائيات من أنه اخترع زعيم ثورة يوليو، ولم يأبه بكلام آخر على نفس الفضائية يستعجل رحيله هو.

قال: «جمال عبدالناصر؟!». أردف استنكاره ببيت شعر، وهو رجل يحفظ الشعر ويستدعيه في كل مقام: «هانت حتى بالت عليها الثعالب».

لم تكن صورة «هيكل» من بعيد تضاهي حقيقته الإنسانية. في تسعينيات القرن الماضي رسمه الفنان «جورج بهجوري» ك«آلة للتفكير بأسلاك متداخلة تنتج رؤى وسياسات».

هذه حقيقة، فبعض كتاباته- بشهادة روائيين كبار أهمهم «نجيب محفوظ»- ترتقي بصورها الدرامية والإنسانية إلى مصاف الأعمال الروائية الرفيعة، لكنه لم يكن يعتبر نفسه روائياً ولا كانت كتابة الرواية من أحلام الشباب التي راودته.

ما أن بدأت علاقته تتوطد مع «جمال عبدالناصر» حتى فرض على نفسه، وعلى حياته العامة والخاصة ستاراً كثيفاً من الصمت والكتمان.

قال لي: «ما كان يجري بيني وبين الرئيس ملكه وحده، وما يصل إليه من قرارات بعد حوارات معي ومع غيري، ملكه وحده، يعلنها في الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يراها مناسبة، لا أنقل عنه ولا أسمح لأحد بأن ينقل عني».

كان من رأيه أن «جمال عبدالناصر هو الحقيقة الأساسية في التاريخ المصري الحديث»، لم يكن معنياً بالتصنيف الأيديولوجي بقدر ما كان متنبهاً إذا ما كان هناك فيما يسمع ويقرأ ويتابع شيئاً له قيمة أو فكرة لها أثر. قال له الدكتور «عبدالوهاب المسيري»: «لست ناصرياً». أجابه: «ليس مهماً».

الواقعة جرت في أواخر ستينيات القرن الماضي عندما عرض وزير الإعلام «محمد حسنين هيكل» على الباحث الشاب الانضمام إلى دائرته الاستشارية.

حسب رواية أخرى ل«المسيري» فإنه سأله عن سر علاقته ب«عبدالناصر» ف«إذا به يتحول من كاتب صحفي إلى شاعر غنائي، كيف أن عبدالناصر بالنسبة لمصر هو المستقبل، وهو التنمية المستقلة، وكيف أن العروبة من الممكن أن تعطي لهذه المنطقة هوية حضارية وثقلاً استراتيجياً يجعلها تواجه عالم التكتلات الكبرى».

لم يمنع انحيازه للمشروع من انتقاداته للنظام.

الأول، يمتد بالتجديد في الزمن.. والثاني، تنقضي صلاحياته باختلاف زمنه.

سألته: «كيف تصنف نفسك فكرياً وسياسياً؟». أجاب: «يسار وسط». قلت: «لماذا يعتقد بعض معاصريك أنك أقرب إلى اليمين؟». قال: «كانوا يظنون أن تجربتي في أخبار اليوم أثرت في تكويني الفكري والسياسي».

«كيف أكون يمينياً وأنا من صاغ فلسفة الثورة والميثاق الوطني وبيان 30 مارس والخطب التأسيسية للتجربة الاشتراكية، التي أعلن فيها عبدالناصر التأميمات».

«أنت تعرف أنني لا أكتب شيئاً لا أقتنع به».

«ثم لا تنس أنني أول من كتبت عن زوار الفجر واستخدمت مصطلحات مراكز القوى والدولة داخل الدولة لإدانة أسلوب في الحكم بعد نكسة يونيو، وتلك كلها اختيارات فكرية وسياسية أؤمن بها».

«ثم إن انتمائي العروبي هو حصاد تجربة جيل بأكمله شاهد وتأثر بحرب فلسطين، واكتشف هويته تحت وهج النيران وصدمة النكبة». «انظر حولك الآن، أين اليسار؟، هو غائب حيث يجب أن يحضر، المرحلة الحالية تقتضي وجود من يدافع عن العدالة الاجتماعية عن اعتقاد وإيمان».

كان رجل مستقبل لا يشغله الماضي إلا بقدر التعلم منه وعدم تكرار أية أخطاء حدثت.

هكذا فإن الاحتفاء بمئويته بعد عام من الآن لا بد أن يذهب مباشرة إلى المستقبل، نراجع الماضي ونتعلم من دروسه، لكننا لا نتوقف عنده. بحسب تعبيره: «التاريخ هو أفضل معلم للسياسة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3z8mz3nz

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"