النظام الجامعي وتوسعة المعارف

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

مَن يعود منا، اليوم، إلى قراءة أعمال مفكرين نهضويين عرب، في القرنين التاسع عشر والعشرين، سيلحظ سعة معارفهم، وقدرتهم على الانتقال السلس من ميدانٍ علميّ إلى آخر، والبراعة في الكتابة فيه في الوقت عينه: التاريخ، تاريخ الفكر، الفلسفة، الأدب، تحقيق النصوص، التّراث العربيّ الإسلاميّ والتراث الغربيّ... إلخ. ومثلما يشهد كمُّ ما كتبوه في هذه المضامير على سعة المعرفة تلك، يشهد عليها - أيضاً - نَوْعُ نصوصهم وما كان لها من عظيم الآثار في التّأسيس لفكرٍ عربيّ جديد.
 هذه أسماءٌ من باب التمثيل لا الحصر: أحمد فارس الشّدياق، بطرس البستانيّ، من الجيل الأول؛ فرح أنطُون وجرجي زيدان من الجيل الثاني؛ طه حسين وأحمد أمين من الجيل الثالث؛ عبد الرحمن بدوي وإحسان عباس من الجيل الرّابع. عبد الله العرويّ، محمّد أركون، هشام جعيّط، أنور عبد الملك من الجيل الخامس. ولم يبق من المعاصرين، ممّن لديهم قدْرٌ من السّعة في المعرفة يتخطّون بها ميدانهم التّخصُّصي، إلاّ القليلون منهم وضّاح شرارة وعزيز العظمة.
 ما من شكّ في أنّ مفكرين عرباً آخرين امتلكوا هذه المعرفة الموسوعية، ولكن في ميادينهم العلمية الخاصة على وجه الحصر: جواد عليّ، وصالح أحمد العليّ، وعبد العزيز الدّوري، وقسطنطين زريق، وكمال الصليبي، وألبرت حوراني في التاريخ؛ وزكي نجيب محمود، وجميل صليبا، ومحسن مهدي، وناصيف نصار، وعليّ أومليل في الفلسفة؛ وحسن حنفي، ومحمّد عابد الجابريّ، ونصر حامد أبوزيد، وعبد المجيد الشّرْفيّ، ورضوان السيد في الدراسات الإسلامية؛ وسيد عويس، وحليم بركات، وفالح عبد الجبار، وفاضل الربيعيّ في علم الاجتماع والأنثروپولوجيا؛ وسمير أمين، وإسماعيل صبري عبد الله، ومحمود عبد الفضيل في علم الاقتصاد... إلخ. غير أنّه ما عُرِف عنهم الانفتاح - إلاّ لماماً - على ميادينَ من المعرفة أخرى والكتابة فيها.
 اليوم يعاني الفكر العربيّ نقصاً ملحوظاً في سعة المعرفة لدى منتجيه على صعيديْها المومَأ إليهما: على الصعيد الأفقيّ العابر لميادين المعرفة، وعلى الصعيد العامودي التخصصي. ندر من تجده من الباحثين العرب، اليوم، من يتمتع بمعرفةٍ عابرة للميادين: تاريخ، تاريخ الفكر، فلسفة، علم اجتماع وسياسة واقتصاد، أدب، علوم اللّغة... إلخ؛ والأنْدَر أن تجد من يكتب في مجالين أو ثلاثة منها. وعلى النّحو نفسه يندُر من يتوسع في ميدان تخصُّصه فيعرف، إن كان مؤرّخاً، التاريخ القديم، والتاريخ الروماني، والتاريخ العربي، والتاريخ الأوروبي الحديث والعالمي المعاصر، وفي جملته تاريخ العرب حديثاً وراهناً. كما يندر أن تجد من المتخصصين في الفلسفة من يعرف، على التحقيق، أمهات نصوصها الإغريقيّة، والإسلاميّة، والحديثة والمعاصرة؛ مَن يُلمّ بفلسفة الأخلاق، وفلسفة السياسة، وفلسفة المعرفة، وفلسفة الجمال، وفلسفة الوجود، وفلسفة الدين..
 الغالب على البحث والتّأليف، اليوم، الانكفاءُ إلى الجزئيِّ والاستغراقُ فيه. يفعل ذلك الكثير، على نحوٍ غيرِ موعًى به في شكلٍ يعبّر عن محدوديّة الأطر المرجعية الفكرية التي يستندون إليها، فيما يميل بعضٌ آخر إلى تبرير انصرافه إلى الجزئيِّ بدعوى التخصُّص والحاجة إلى التزام تقاليده العلمية، والإعراض عن حديث عامّ يخرِج البحثَ في الموضوع من نطاقه المحدّد؛ النطاق الذي يصرف البحث جَهْداً وحيّزاً منه لتضييقه وتضييق المدخل إليه. ولكن، ما إنْ تتفحص ذلك التخصص محاولاً العثور على ما يَسِمُه ويميّزه حتى تكتشف أنّه ليس من التّخصُّص في شيء، وأنّه لا يعدو أن يكون اسماً مستعاراً للقصور! عدا عن اكتشافك إلى أيّ مدًى يصير فيه الانهمامُ بالجزئيِّ شجرةً تُخفي غابة المعارف والمناهج عن المنغمس فيه.
 ليس من إمكانٍ للخروج من هذا النّفق المعرفيّ، وتغذية الفكر العربيّ بالينابيع والموارد إلاّ من طريق إعادة بناء نظام التّكوين، المدرسي والجامعي، على منوالٍ جديد. كان يُفتَرض في هذا النّظام أن يتجاوز سابقه قبل أربعين عاماً فينتج نمطاً من التّأهيل والتكوين أرقى، والحال أتى حصادُه شديدَ التّواضع - بل التّاجع - عمّا سمح به سابقُه! إنّ التّخصُّص الدّقيق لا يستقيم إلاّ بعد تكوينٍ متعدّد الأشكال والروافد يفتح الفكر على معرفةٍ بميادين الفكر جميعِها أو معظمِها.
لذلك، لا يناسب التّخصّص إلاّ طورُ الدّراسات العليا والبحث العلمي؛ حيث يكون المنصرف إليه متأهِّلاً سلفاً في ميادين علمية متعددة ومتضافرة، وممتلكاً أدواتها جميعاً بما يضفي على تخصصه قيمةً، ويمنحه مواردَ من خارجه لتغذيته. هكذا يمكن تجديد سعة المعارف، لدى المتأهل، من برامج التكوينات المتداخلة التي يتلقّاها، والتي ينفتح بعضُها على البعض بما يُحقّق القدر الضروري من تكامل المعارف في وعيه. إذا لم تكن الجامعات مورداً للمعرفة والفكر فما قيمتُها إذن؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr2e36vz

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"