العبور الصعب نحو الدستور

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

تحت عنوان «الطائف 33- الميثاق الوطني اللبناني»، ينعقد اليوم في قصر الأونيسكو في بيروت مؤتمر «إبرام وثيقة الوفاق الوطني»، بدعوةٍ من السفير السعودي وليد البخاري، تحضره الشخصيات السياسية والفكرية في زمنٍ يبدو اتفاق الطائف العنوان الأبرز في لبنان. اعتذرت لأنني على سفرٍ. وللعلم فعل «أبرم يعني: ألحّ قاصداً إِفحامه أي إِسكاته في الجِدَال». لكن لمؤتمر الإبرام أهميته في مفصل تشابك المواقف المطالبة بتعديلات جذرية في دستور الطائف وهذا حقّها بالمطلق، لأنّ الدساتير ليست مقدّسة. الطريق معقّد ولن يُعبّد لأنّ الكلام المستور والمنثور باحتساب أعداد اللبنانيين طائفياً يختلط بأصوات تدعو للتوافقية لا العددية قطعاً.

لماذا يحصل هذا كلّه؟ لأن مناقشات الطائف ووثائقه ملفوفة أبداً في أدراج رئيس البرلمان السابق حسين الحسيني يحجبها لأنّها «توحي بالكوارث والمذابح» كما يقول. ولأننا نتطلّع إلى بلدنا بعد ثلاثة عقود فنجده مغايراً وناسياً حتّى لديباجة دستوره وفيه: «لا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين ولا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».

وثيقة الطائف نصوص مهملة مذ عادوا للبنان. رفعها الحسيني لوحة فنية في منزله ملاصقة لصورته التذكارية مع البابا بولس الثاني وله دور وهو دمغة التغيير الجلية في التاريخ المعاصر.

ولأنّ رفيق الحريري انخرط مع اللجنة الثلاثية العليا في الطائف، وكان همّه العمراني مسكوناً ب«الداون تاون» المعروفة أساساً ب«ساحة الشهداء» بعدما دمّرتها الحروب الطائفية العنيفة، وأعيد بناؤها تحت شعار «المدينة العريقة للمستقبل» إذ نقشت المقدمة قبالة مبنى البرلمان، لكن وقائع لبنان بقيت تخفي أسراراً كثيرة مجهولة ومُقلقة، من الرفض للطائف إلى الجهر الوطني والمستورد الذي عطّل عجلات الدستور.

ملاحظات تسهّل عبورنا في الوعر الدستوري:

1- الطائف، بالرغم من رصيده الإقليمي والدولي، نص توافقي. ليست المشكلة بالنصوص بل بالنفوس الأبدية. تقتضي التوافقية التنازل النهائي والرضائي عن المطالب والحقوق دون أي تعويض لإعادة تشكيل السلطات مغانم ومكاسب. التعويضات كثيرة ومحصورة. لهذا قويت الملاحظات الرافضة لاتفاق الطائف المشكول بالقرار الدولي 1559. تعمّقت مستويات التفسخ الوطني بين المعارضين والموالين والمنبريين والمقاطعين والمستقلين والمسايرين والمسجونين والمبعدين قسراً، وازدادت بعد عودة ميشال عون من فرنسا بعد 15 سنة، وخروج سمير جعجع من السجن بعد 11 سنة. الجروح لم تسودّ الدماء فيها. مختصر الطائف محصور بالانتقال من السلاح إلى السلم المهتز. هكذا توزّعت الأطراف بين من يعارض الدستور مطالباً بالسلطات والصلاحيات المفقودة والمُباعة أو يعارض السلطات كلها مطالباً بالوطن العلماني ليدبّ مناخ الاستحالة بتطبيق الوفاق الوطني حيث الإحباط والانكفاء والفراغ مجدداً مقابل التفرد والفجور والإلغاء والاستقواء والاستعداء إن لم نقل الاستجداء العام للظفر بالحصص والمناصب. حمل الاتفاق كنص دائري مقفل مجموعة كبرى من القضايا الدستورية التي تحتاج إلى تفسير تعميقاً للوفاق الفعلي، لكن الحواريات بقيت نوافذ مقفلة للاشتباكات الممنوعة إقليمياً ودولياً.

2- أرضى السلم المنبثق من الطائف جروح اللبنانيين لكن زعماء الطوائف والأحزاب فشلوا في الحكم لتجذّرهم حتى النخاع بممارساتهم التقليدية الطائفية والمناطقية الموروثة وهذا ما جعل الشروخ العفنة بين الطوائف المقياس. صحيح أنّ الأجيال الجديدة رفضت بل صُدمت بنظراتها لسياسيين يتقاسمون الوطن المكسور والمهجور، لكنّ الأصح أن الوطن صار مؤقتاً نتركه بانتظار ظروف مستجدة، يعود أطراف النزاع هم هم إلى المطالب والطروحات نفسها وربّما إلى الاقتتال.

3- حمل الطائف معضلة الصراعات وصدمات الانتخابات البرلمانية المتتالية وآلية تأليف الحكومات المنسوخة نسخاً عن ماضٍ فاسد لم يراعِ حتى القطعان اللبنانية لتطرح الأسئلة كلّ لحظة: من يمثل من؟ ومن انتخب من؟ ومن يتجرأ على اعتبار لبنان عقاره الخاص؟ وأي طبقة تلك تتحكم بالناس والمال والماضي والحاضر والمستقبل؟

4- بدت «المرجعيات» المسيحية محكومة بالضياع والتمزق وما زالت، نقطة الضعف المعقدة. كان الموارنة مثلاً الرقم الصعب لأن دولاً إقليمية وأوروبية استفادت منهم تحضيراً للمسألة الشرقية ومصالحها وأصبح ورقة خريفية متكسّرة حتّى مارونيّاً. كانوا واجهة الغرب في لبنان والمنطقة لكن المنطقة كلّها صارت مهبط الغرب والشرق، حافلة بالمنجزات الحضارية الغربية للكلمة! يعيش المسيحيون الإرباك التاريخي والإرهاق الكياني عاجزين عن الانخراط جذرياً أو استيعاب الجديد بعدما أضاعوا القديم أراهم يتطلعون بحسرةٍ مبهورين بالمتغيرات الكبرى الحاصلة في العالم وفهمها وترجمتها عبر مواقف متجددة وعقلانية في السياسة تُعيد خرطهم في فصيلة العظام الصلبة لا الأدران الهشة.

ثمة مشكلة مزمنة، فالدولة لم ولن تقوم بعد، ويبدو المستقبل مثقلاً بالديون والتحولات وكأنّ ما نُفذ من الدستور قد نفّذ وما لم ينفذ قد يسقط بانتظار نص معدل أو بانتظار لبنانٍ جديد!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycxybmac

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"