فلسفة المطر

01:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

المحرر الثقافي

تمزج قصيدة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الجديدة بين أكثر من غرض شعري، تنتمي للوهلة الأولى إلى شعر الطبيعة، هكذا تؤشر عتبة العنوان «ودق وبرد»، ولكن لا يلبث سموه أن ينتقل بنا إلى شعور آخر تماماً، حيث يضعنا أمام حكمة صافية.. ماتعة اكتسبها من تأمل الطبيعة وتحولاتها، حكمة نعثر عليها في البيت الأول للقصيدة، حيث يقول سموه:«الفكرَهْ تبدا مثِلْ نفِّهْ إنزلتْ في مطَرْ/ وسحايبْ الفكرْ مجراها كمجرىَ السَّحابْ»، هنا يتحدث سموه عن دورة حياة الفكر، فالفكرة تبدأ صغيرة وصعبة وعسيرة وبعيدة المنال، تأتي في لحظة فارقة.. لحظة تأمل.. أو مثل نزول قطرات المطر بعد طول انتظار، ولا تلبث أن تنمو وتكبر، وتتحول إلى سيول، وتنضم إلى أخواتها من الأفكار الأخرى التي يتشكل من مجموعها حزمة من الأفكار.. أو فلسفة متكاملة «مجراها كمجرى السحاب».
نحن أمام تشبيهات واستعارات تحتاج إلى أكثر من قراءة، والبحث عن الرمز والدلالة، مفردات موظفة ببراعة تجعلنا نتنقل بسرعة وعذوبة بين الطبيعة والحكمة، فنحن هنا في حضرة شاعر امتلك ناصية البيان، وطعم أشعاره دائماً بفلسفة تخاطب القلوب قبل العقول. 
المطر ليس لحظة خير وبركة وحسب، ولكنه وقت يعشقه جميع الشعراء، ساعات من استبطان الذات والتفاعل المثمر مع العالم والتعاطي معه من منظور مختلف، المطر حالة طبيعية متفردة، يمنحنا الكثير من الفرح ويدفعنا إلى السؤال، ولذلك يقول سموه في البيت الثاني مباشرة: «ذكرني اليومْ هذا الجوْ وقتٍ عبَرْ/ أشريهْ بالعمرْ لو ينباعْ وإلاَّ يجابْ»، هو عشق المطر، وعشق هذا الوقت من كل عام، عشق صاف يخرج من قلب صادق صور ببساطة وتلقائية وفي أكثر من مناسبة عن حبه للشتاء في الوطن.
مع المطر تأتي الغيوم، وهي فضاء للذكرى، فالغيوم تداعب قلوبنا بقوة، تحملنا بأثيرية إلى الماضي، هنا تتواصل صور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الشعرية، ويكمل كل منها الآخر، وتنمو أمام أعيننا لوحة شعرية رائعة، يقول سموه في البيت الثالث: «ياغيمْ هوِّنْ علىَ قلبٍ يحسْ الإثَرْ/ وإنتهْ عطاياكْ تشبِهْ عاليينْ الجنابْ».
ولكن من الذي يستحضره الشاعر، وهو مسكون بكل هذه الأحاسيس، إنه أخوه وعضده ورفيق دربه، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، يقول سموه في البيت التالي: «ذكرتْ محمد ترىَ يمناهْ مثلِكْ بحَرْ/ ويزيدْ معطاهْ عنْ معطاكْ مليونْ بابْ»، هنا تتحدث البلاغة بلسان فصيح، يتخفى وراء الشعر وأساليبه وقوته وقدرته على التأثير، إن صاحب السمو رئيس الدولة أكثر كرماً من المطر، يمناه بحر، وعطاؤه يزيد عن المطر بمليون مرة أو «باب»، ويسترسل سموه بعد ذلك في صفات وسمات «بوخالد»، فيتابع بالقول: «ومنْ شافْ بوخالد ترىَ حظَّهْ بمحمد كبَرْ/ وأمطارْ كفِّينْ محمد ماتمَلْ إنسكابْ»، وهو بيت تفصيلي يؤكد المعنى ويدعمه في نفس المتلقي، فأيادي صاحب السمو رئيس الدولة، تمتلئ بالخير والبركة وتمتد بالعون إلى الجميع، هي تماماً مثل المطر، غير أنها تتميز عنه فهي أياد معطاءة طوال العام، بخلاف المطر الذي يخضع لقوانين الطبيعة، هي أياد «ما تمل انسكاب».
يعود صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في البيت التالي إلى الفلسفة، ويوظف أحد أبرز مصطلحاتها للتعبير عما يثيره المطر في نفسه، وهو مصطلح «الاغتراب» بكل ما يحيل إليه من معنى، يقول سموه: «يافكرةٍ في ضميري كلما ينتثِرْ/ ودقْ وبرَدْ تبتدي بي رحلةْ الإغترابْ». الاغتراب في الفلسفة حالة دائمة من العصف الذهني، أسئلة تنتاب النفس وتتعلق بكل شيء يحيط بنا في العالم والطبيعة والبشر، تأمل في أركان وزوايا قلوبنا، حالة توهج مستمرة من البحث والتفكر وإعمال الذهن، ويختم القصيدة موظفاً المعنى الأشمل للاغتراب بالقول: «ودامكْ تفكِّرْ فإنتهْ الفَذْ بينْ البشَرْ/ وأنا بشَرْ غيرْ أنِّي في الحقيقَهْ كتابْ».
إن كل من يفكر يستحق التقدير والاحترام، هكذا علمتنا الفلسفة، وهكذا يقول الشاعر بصدق وبراءة وعفوية، غير أن الفيلسوف وحده بما يمثله من حالة تفكير مكثفة يتحول بالخبرة والتجربة وكثرة التأمل إلى كتاب بكل ما يحيل إليه الكتاب من معنى، وعلى القارئ التأمل والتفكير، وهنا تكتمل اللوحة الشعرية والهدف الكامن وراءها.
على خطى كبار الشعراء استثمر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في قصيدته الجديدة مفردة المطر، وصنع ما يمكن تسميته ب «فلسفة المطر»، بكل أبعادها الجمالية ووظف ما يطرحه المطر علينا من أسئلة وما يثيره في نفوسنا من ذكرى، وما نشعر به أحياناً من لحظات غموض أو اغتراب، ونجح عبر السهل الممتنع في إثارة انتباهنا وتحفيز عقولنا ولا نملك إلا أن نردد معه مقولته التي تحتاج إلى إبحار آخر «ودامكْ تفكِّرْ فإنتهْ الفَذْ بينْ البشَرْ».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3sp8hsf3

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"