عادي

غربة الواقع.. و«التعليم»

22:37 مساء
قراءة 6 دقائق
3

الشارقة: علاء الدين محمود

هل يوجد علم اجتماع عربي؟ وأين هو من رصد وتحليل وتفسير المتغيرات والتحولات العصرية بسبب العولمة الرأسمالية والثورة التقنية والرقمية التي كان لها أثر في تغيير العادات والسلوك والممارسات الاجتماعية مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي؟، وأين ذهبت تلك الإنجازات والفتوحات العظيمة التي تحققت في هذا الحقل بواسطة علماء عرب كان لهم تأثيرهم الكبير في الغرب مثل ابن خلدون؟، ولعل كل تلك الأسئلة تشير إلى أن هنالك إشكالات حقيقية متعلقة بدور هذا العلم في الواقع العربي الراهن الذي تبدلت فيه كثير من القيم الاجتماعية والسلوكية وظهرت أخرى جديدة كنتيجة طبيعية لأسلوب ونمط العيش في عصر السرعة والاستهلاك والفردانية والتشظي.

يمكن القول إن المشتغلين بعلم الاجتماع من المختصين العرب، لم يصيغوا نظرية حول الواقع الاجتماعي، ويمكن هنا الاستناد إلى عبارة وردت في تقرير اليونيسكو لعام 2010، عن حالة العلوم الاجتماعية في مجتمعات شمال العالم وجنوبه، حيث جاء في ذلك التقرير: «في العالم العربي عدد كبير من الطلبة والجامعيين ذوي المواهب العالية في العلوم الاجتماعية، لكن لا يكاد يوجد لديهم هدف محدد لبحوثهم»، وذلك أمر في غاية الخطورة؛ إذ يؤكد أن العالم العربي يعاني حقيقة شح الجهد النظري في مجال علم الاجتماع، وهذا فتح الباب أمام سيادة الاجتهادات هنا وهناك، ويظهر ذلك جلياً في عدم المقدرة على تشخيص الواقع العربي، وذلك يدلل أيضاً على أن الكثير من الدول العربية لم تهتم فعلياً بعلم الاجتماع في المؤسسات التعليمية ولم يكن هناك الوعي الكافي بفائدته في تحليل الظواهر، بل وفي أحيان كثيرة ظل محارباً لأنه يتناول العادات والتقاليد صاحبة النفوذ في كثير من المجتمعات.

نماذج

لكن بصورة عامة فإن هنالك العديد من علماء الاجتماع العرب قد وضعوا أسساً يمكن أن يبنى عليها من أمثال: د. سيد عويس، الذي قدم غوصاً عميقاً في أماكن معتمة من المجتمع، عبر قربه من عوالم المهمشين وعمله على تحليل وتفسير ومقاربة كثير من الظواهر المتعلقة بذلك المجتمع، وهنالك أيضاً د. نوال السعداوي التي مارست هي الأخرى فعل الاقتراب من عوالم يلفها الصمت، واستطاعت أن تحدث اختراقاً وفتوحات متميزة على مستوى القيم الاجتماعية الجديدة، ولا ننسى أيضاً مجهودات فاطمة المرنيسي، وعبد الكريم الخطيبي، وآخرون قدموا مجهودات إضافية استطاعت أن تكسر حاجز الصمت وتقدم إضاءات حول العديد من الظواهر الاجتماعية.

وفي الواقع نجد أن هنالك حاجة فعلية وحقيقية ومتزايدة لأهمية علم الاجتماع، نسبة للدور الحاسم الذي يمكن أن يلعبه في حياة المجتمعات ورصد التحولات فيها، وعلى الرغم من أن البعض يرى أنه ليس من شأن العلوم الاجتماعية أن تقدم تنبؤات أو توقعات، بل تكتفي بدراسة وتحليل الظواهر، بحسب الكثير من المدارس والتيارات في ذلك الحقل، إلا أننا في حقيقة الأمر نجد أن الكثير من الفلاسفة والمفكرين قد أولوا هذا الموضوع اهتماماً كبيراً وأنتجوا العديد من المفاهيم والرؤى الاجتماعية، فعلى سبيل المثال هنالك كارل ماركس، الذي اهتم بصورة خاصة بالمجتمع وحركته وما يجري فيه من صراع، وأولى مسألة التوقعات أهمية مقدمة، إلى حد أن الكثير من المفكرين يضعونه في خانة علماء الاجتماع أكثر من كونه فيلسوفاً، ولعل الأمر الحاسم في ذلك أن الرجل قد تحدث عن بنيتين، بنية تحتية وهي البيئة المسؤولة عن التربية والتنشئة وطريقة الحياة والعيش، وبنية فوقية هي انعكاس لتلك الفوقية؛ بمعنى أن الناس يفكرون بطريقة معينة نسبة لطريقة الحياة التي عاشوها. وتجدر الإشارة هنا لتلك الجهود الجبارة التي بذلها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، الذي قدم أطروحة «إعادة الإنتاج الاجتماعي»، تلك التي أفردت مكانة متميزة لقضية علم الاجتماع والتربية، والأهم من ذلك أن بورديو قدم دراسات ميدانية من صميم المجتمع، خاصة في كتابيه «بؤس العالم... رغبة الإصلاح»، و«الهيمنة الذكورية»، وهنا تكمن مسألة مهمة شديدة الصلة بواقع علم الاجتماع العربي، ذلك أن هذا الحقل يتقدم وتصاغ فيه النظريات في الغرب نسبة للبحوث والدراسات الميدانية، حيث لا يتم اعتقاله في أروقة الجامعات، وذلك تماماً ما يحدث في العالم العربي، حيث لا يوجد هذا العلم إلا في المؤسسات الأكاديمية، حيث لا يتم الاهتمام كثيراً بالدراسات الميدانية من قلب الواقع الاجتماعي وحال ذلك دون صياغة نظرية عربية في علم الاجتماع، وظل هذا العلم يعاني غربة كبيرة.

الشبكة العنكبوتية

يعيش العالم اليوم متغيرات كبيرة وجوهرية في زمن ما بات يعرف «بعصر العولمة»، والذي تعزز عبر ذلك الانفجار التكنولوجي الكبير، والذي أنتج أشكالاً وأنواعاً جديدة من التواصل، بل وأسس لواقع مختلف غير ذلك التقليدي المتعارف عليه، وهو ما صار يعرف بالعالم الافتراضي، لقد كاد المجتمع بصورته القديمة من حيث التواصل الاجتماعي المباشر، أن يتلاشى، بفضل التكنولوجيا، وبات التباعد والتشظي هو البديل عن التقارب واللحمة الاجتماعية التي كانت طابع الحياة في السابق، وخفتت العلاقات البشرية، وهو التحدي الأول أمام علم الاجتماع، حيث إن الحياة الاجتماعية القديمة قد تبدلت تماماً بفضل تلك المواقع التي صارت ملاذاً؛ بل وربما كانت في نظر الكثيرين حياة أكثر أمناً من الحياة الواقعية، ففي تلك المساحات الافتراضية تنشأ العلاقات الاجتماعية عبر الاهتمامات المشتركة والمتشابهة والتي على أساسها يتم اختيار الأصدقاء والمتابعين، وتنشأ أيضاً لغة جديدة تحل فيها الرموز والإشارات مكن النطق في كثير من الأحيان، وصار الإنسان يتحدث عبر تقنية اللايف «البث الحي»، عن أفكاره مباشرة والتي تصل إلى الآخرين في مختلف أنحاء العالم، وهذا التغيير العظيم في حياة البشر يؤكد ضرورة إطلاق الطاقات في مجال علم الاجتماع من أجل رصد السلوك الإنساني الجديد، ونشير هنا إلى أن بعض علماء الاجتماع الغربيين توقعوا هذا العالم الجديد فالفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان، كان قد أكد، قبيل هذا الانفجار الكبير، بأن وسائل الاتصال الجديدة هي بمثابة امتداد لحواس الفرد وتطور أساسي في حياته، وذلك ما يحدث بالضبط في الوقت الراهن.

ارتباك

غير أن الملاحظات المهمة هي أن هذه المتغيرات تحظى باهتمام كبير في الغرب، حيث تبذل الكثير من الدراسات والبحوث حول تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على حياة البشر، وبالطبع هذه الأبحاث هي ذات علاقة خاصة ومباشرة بالإنسان الغربي، فالبشر في الغرب كانوا يعيشون نمطاً حياتياً متقدماً على بقية أنحاء العالم، ثم جاءت متغيرات جديدة، قادت إلى سلوكيات وأنماط عيش وحياة مختلفة، وقد أحدثت تلك المتغيرات بالفعل إرباكاً كبيراً في علم الاجتماع القديم من حيث مهامه وقدرته على الرصد والتنبؤ، فصار كل ما يستطيع أن يفعله هو ملاحظة الواقع، على نحو ما يرى عالم الاجتماع رايت ميلز، الذي دعا، مع بدايات التطور التكنولوجي، إلى ثورة في ذلك العلم، بحيث يتحرر من النزعة المحافظة التي سعت على الدوام لتبرير الأوضاع الاجتماعية أو الدفاع عنها، فما يراه ميلز وعدد من العلماء البارزين أن التكنولوجيا بدأت تسيطر على الحياة الإنسانية بحيث صار علم الاجتماع غير قادر على وضع تصورات أو مجاراة ذلك التطور، فلئن كان الإنسان في السابق هو محور الدراسات الاجتماعية، فإن الوضع قد تبدل وصارت التكنولوجيا وما تحدثه هي المحور، لقد صار الإنسان بالفعل مغترباً عن جوهره الإنساني والاجتماعي، وصار يتبنى قيما وسلوكيات اجتماعية.

فقر

الملاحظة المهمة أن كل ما قدم من جهود نظرية هي خاصة بالغرب، فيما يتعلق بالمتغيرات الناجمة عن سيادة مواقع التواصل الاجتماعي وقضاء الإنسان الوقت الأكبر من وقته حبيساً لتلك الوسائط الإلكترونية، في حين نجد أن العالم العربي يكاد يكون خالياً من الدراسات التي ترصد الظاهرة وتحلل وتفسر المتغيرات الكبيرة التي طرأت فيه، وهي مسألة ليست غريبة نسبة للأسباب التي سقناها، ولكن تصبح الحاجة إلى علم اجتماع يفسر ويحلل مسألة في غاية الأهمية نسبة للتأثير الكبير لتلك المواقع على الإنسان العربي خاصة الشباب الذين يشكلون الغالبية من السكان في المجتمعات العربية، حيث نلاحظ أن هذا العلم لم يستطع عربيا أن يجاري العديد من الأحداث وعلى رأسها وقائع ما عُرف ب«الربيع العربي»، والتي كان لمواقع التواصل الاجتماعي دور كبير فيها، حيث إن معظم ما وقع على الأرض كان نتيجة دعوات في«فيس بوك»، و«تويتر»، و«يتيوب»، وغير ذلك من المواقع، إذ إن تلك الأحداث أكدت وجود فقر وخلل كبير في الدراسات الاجتماعية للواقع العربي، حيث لم تتنبأ بها، ولم تدرس التحولات الاجتماعية التي قادت إليها.

لقد أثبتت الكثير من الأحداث والحوادث العالمية والعربية من خلال الممارسات في مواقع التواصل الاجتماعي، أن هناك حراكاً اجتماعياً يجري في العالم الافتراضي، وربما ذلك الأمر هو ما قاد إلى ظهور ما بات يعرف ب«علم اجتماع الإنترنيت»، «Internet sociology»، وهو يبحث في الممارسات الاجتماعية في مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك الكثير من العلماء الذين نظروا له مثل: مراكوس نوفاك، ومايكل هايم، وإليزابيث ريد، ومايكل بيندكت، ولقد حاولوا رسم خطوط لتفسير طبيعة التفاعل الاجتماعي عبر التقنيات، وهو علم مازال في بداياته، لكن تكمن الأهمية عربياً في أهمية فك تلك التبعية والعمل من أجل بناء نظرية عربية في علم الاجتماع، نسبة لاختلاف واقع كل مجتمع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3edxn37z

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"