ما صدر عن المكتب الوطني للإحصاء في بكين قبل أيام، يقول إنه لا شيء في هذه الدنيا بالمجان، وأن ذلك يسري على الدول بمثل ما يسري على الأفراد سواءً بسواء.
المكتب قال في بيان له أذاعته وكالات الأنباء حول العالم، إن عدد سكان الصين وصل بنهاية 2022 إلى مليار و412 مليون نسمة، وإن هذا الرقم يسجل انخفاضاً في عدد الصينيين 850 ألفاً في السنة الماضية، إذا ما قورنت بالسنة السابقة عليها.
وما سجله المكتب في هذا الشأن يحدث في الصين للمرة الأولى منذ ستة عقود، ويشير إلى أن بلد التنين يشهد تغيرات ديموغرافية لم يشهدها من قبل.
أما آخر مرة سجلت الصين فيها انخفاضاً في عدد سكانها فكانت في ستينات القرن الماضي، وكان ذلك عندما كانت البلاد تقع تحت حكم ما وتسي تونغ، الذي كان قد أعلن سياسة زراعية اشتهرت في وقتها بأنها:«الوثبة الكبرى إلى الأمام».
ففي ذلك الوقت تعرضت البلاد لمجاعة، وكانت السياسة الزراعية التي اتبعها ماو هي السبب، وكان من حصيلة المجاعة أن سكان الصين سجلوا انخفاضاً في العدد، ومن بعدها لم يسجلوا شيئاً من ذلك وبدأ العدد في الازدياد، إلى أن صار الصينيون هُم أكثر الشعوب عدداً في العالم من دون منافس.
ولكن الجديد أن الهند المجاورة لهم سوف تتفوق عليهم في هذه السنة، وسوف لا تنتهي 2023 إلا وقد زاد عدد الهنود على الصينيين.
ولا أحد يعرف ما إذا كان ذلك سيضايق الحكومة الصينية، وإلى أي مدى بالضبط سيضايقها !.. ولكن ما نعرفه أن القضية لها بُعد آخر هو تأثير هذا النقصان في العدد على قضية التنمية في الصين، لأن التناقص مرتبط بتقدم الكثيرين من العمال في العمر، وهذا مرتبط بدوره بعدم قدرة العمالة التي تتقدم في العمر على المشاركة في العمل، وبالتالي عدم قدرتها على المشاركة في رفع معدل النمو الذي عاشت الصين تتباهى به بين بقية الدول.
وكان سبب النقصان هو سياسة الطفل الواحد التي اتبعتها الحكومة هناك لفترة طويلة، ثم ألزمت بها جميع الصينيين من دون استثناء.
وكانت سياسة الطفل الواحد تجعل الحكومة ملتزمة بتقديم الخدمات العامة من صحة وتعليم وسواهما للطفل الأول فقط، فإذا أنجبت الأسرة أكثر من طفل فهي حرة طبعاً، ولكن بشرط أن تكون على دراية مسبقة بأن كل طفل آخر بخلاف الطفل الأول هو من مسؤوليتها وحدها، وأن الحكومة ليست مسؤولة تجاهه بتعليم، ولا بصحة، ولا بشيء من الخدمات العامة غيرهما.
ومن بعد سياسة الطفل الواحد انتقلت إلى سياسة الطفلين، ثم بدءاً من عام 2016 تخلت عن السياستين، وأصبح في مقدور كل أسرة أن تنجب من دون قيد.
ولكن الحكومات المتتابعة التي اتبعت السياستين، لم تكن تتوقع أن يكون لهما مردود سلبي هكذا على قضية التنمية، أو على القدرة على تحقيق معدل نمو مرتفع باستمرار.
والآن.. يستيقظ الصينيون على أعراض جانبية للسياستين، لم يكونوا ينتظرونها ولا كانت لهم في البال أو في الخاطر، ولكن بصرف النظر عن ذلك كله، وبصرف النظر عما إذا كانوا قد توقعوا ما هو حاصل أو لم يتوقعوه، فإن الدرس هو أنه لا شيء بالمجان، وأن الدول تستوي في هذا المبدأ مع الأفراد، وأن تجربة الصين الحية تبقى دليلاً لا تخطئه العين.