«لا»

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

في روايته «أعدائي» يذكر ممدوح عدوان على لسان أحد أشخاص الرواية أن كلمة «لا» هي أقوى كلمة في الدنيا، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أيضاً أنها لم تستهلك من اللغة سوى حرفين، ويبدو أن الكلمات من هذا النوع هي الأقوى فعلاً ليس في الدنيا فقط؛ بل وفي العالم كلّه، ولعلّ كلمة «حب» المؤلفة هي الأخرى من حرفين لا أكثر، أقوى من كلمة «لا»، وأجمل.
تستمد الكلمة قوتها من معناها ودلالاتها وإحالاتها الفكرية والثقافية والمعنوية، وليس من عدد الحروف التي تكوّنها، لكن الأهم من حجم الكلمة متى ننطقها، والإمام علي يقول: «تكلّموا تُعْرَفوا، فإن المرء مخبوءٌ تحت لسانه»، وفي الثقافة الشعبية يقال: «الكلمة مثل الرصاصة، إذا خرجت من الفم لا تعود إليه»، وما أجمل المثل العربي الذي يقول: «لسانك حصانك.. إذا أهنته أهانك.. وإذا صنته صانك»، والكلمة الواحدة أصل الجملة، والجملة أصل النصّ، والنصّ أصل الكتاب، وفي بعض النصوص الدينية يذكر دائماً: في البدء كانت الكلمة.
أصعب ما في الكتابة الكلمة الأولى. سمّها ما شئت، الكلمة المفتاحية، أو الكلمة الاستهلالية، أو الكلمة العتبة. المهم هو البدء. وحين يعجز الكاتب عن الكلمة ويصمت أمام بياض الورق وسواد الحبر، فإنه يتعذّب بالمصير الجهنمي الذي يخشاه كل كاتب في العالم: الجفاف.
أصعب ما في الحب أيضاً الكلمة الأولى. تماماً مثل الكتابة، ولكن يبدو أن كلمة الكتابة تخرج من الفم، في حين تخرج كلمة الحب من القلب.
«لا» النافية لأي شيء كان، أصعب ما تنفيه الحب، وما أصعب أن تتجاور هاتان الكلمتان القوّيتان «لا» و«حب».
في العام 1960 أصدر الشاعر اللبناني أنسي الحاج، وكان آنذاك في الثالثة والعشرين من عمره، مجموعة شعرية هي الأولى له بعنوان «لن». كلمة، أو حرف، أو اسم أو أداة قوية أيضاً من حرفين فقط، ولعلّ تلك المجموعة حين صدورها قد لفتت الأنظار إليها لكونها عنواناً شعرياً من حرفين فقط، في حين كان الشعراء العرب آنذاك مولعين بالعناوين الطويلة، أو العناوين المنبرية الشعاراتية التأكيدية، النقيضة تماماً لقوة النفي التي تتضمنها كلمة صغيرة في حجم «لن».
كان حبيب الصايغ من بين أجمل العموديين والتفعيليين العرب يحب العناوين الصغيرة المكوّنة من كلمة واحدة. مجموعته «ميارى» مثلاً صدرت في العام 1983، وصدرت مجموعة «الملامح» في العام 1986، وفي عام 1995 أصدر مجموعة من حرفين «غد». كلمة قوية هي الأخرى، لا نفي ولا جزم ولا نصب فيها؛ بل تحمل معنى اليوم الآتي. تحمل معنى القادم.. ولعلّ أجمل الأيام هو الذي لم يأتِ بعد..
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p99zu7n

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"