أحياناً تحنّ الدول إلى الماضي

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

وجّهت الهند لمصر الدعوة لحضور احتفالات عيد الاستقلال، وهي مناسبة لها ما تستحقه من تبجيل. قرأت ما نشر موجزاً عن هذه الدعوة، وطلب مشاركة مصر بمجموعة رمزية من قوات الجيش في الاستعراض العسكري الذي يعد خصيصاً لهذه المناسبة. ولا أبالغ إن علقت قائلاً إنني وقد كنت شاهداً على استعراضات في مناسبات مشابهة في دول عدة، لم أرَ احتفالاً يرقي بالتنظيم، أو بالألوان، أو بالهيبة التي رأيتها في احتفال الهند بعيدها. أتكلم تحديداً عن احتفال بالاستقلال كنت مدعواً لمشاهدته في نهاية الخمسينات من القرن الماضي.

لفت نظري في الدعوة الموجهة مؤخراً إلى مصر للمشاركة في عيد الجمهورية، أي عيد الاستقلال، ما صاحبها من مظاهر تكاد تعلن بأعلى صوت دبلوماسي وأصوات، أخرى أن وراء هذه الدعوة اهتماماً غير عادي، أو، وبدقة أشد، تعمداً صاخباً ببث هذا الاهتمام. كنت أعرف من متابعاتي غير المنتظمة للهند وأحوالها وصعودها في العديد من المجالات، أن في الهند جدلاً دائراً حول تخلف الدبلوماسية عن ترجمة هذا الصعود، وإعادة بثه في شرايين علاقاتها الدولية. بحثت بين أصدقائي الهنود، بخاصة بين المقيمين منهم في الخارج، وعن متابعين لأحوال الهند، بخاصة في الآونة الأخيرة، وللتطور المشهود في شبكات علاقاتها الدولية. سألت وناقشت وخلصت إلى ما يلي:

* أولاً: أبدأ بمزحة لم يتردد صاحبها بأن يصفها بالسواد. قال: يا صديقي وأنت تحاول تحليل سياسة الهند في المرحلة الراهنة، أو وأنت تراقب سلوك المسؤولين في الهند، بخاصة في مجال السياسة الخارجية، لا تنسَ أن الإنجازات التي تحققت في الهند، بخاصة مؤخراً، أحالتهم إلى سكارى. هم الآن يعملون على صنع تاريخ متصل للهند يحكي رواية واحدة عن شعب أنجز المستحيل عبر السنين.

* ثانياً: ولكن الحقائق على الأرض تضيف اعتبارات أخرى جادة. قال آخر. لا شك في أنك لاحظت كثافة الظروف والتحولات العالمية التي اجتمعت في السنوات، وربما العقود، الأخيرة وهي تدفع الهند دفعاً نحو مرتبة أعلى في تصنيف الدول. الهند تصعد بفعل ما حققت، ولكن أيضاً تصعد بضغط من تحولات في النظام الدولي نحو دور مهم لها يصعب علينا الآن، وربما على غيرنا، معرفة تفاصيله.

* ثالثاً: أضاف قائلاً: أرجو أن تضع في اعتبارك أن الهند أصبحت القوة الدولية الأكبر في العالم من حيث عدد السكان. يعني أننا تفوّقنا على الصين. ولهذا التفوّق متطلبات تفيده وتدعمه، وله كلفة تدفعنا لنستعد لها.وللنجاح ثمن باهظ سندفعه حتماً، فرعاية الأمم الشابة باهظة الكلفة، وطموحاتها لا سقف لها.

* رابعاً: أعتقد أن حكومة ناريندرا مودي تسعى بخطى جادة وحثيثة من أجل التقليل من الأثر السيئ الذي خلّفته الحملة العنصرية ضد الهنود المسلمين. هذه الصورة وقد علقت بالفعل في أذهان شعوب الدول الكبرى، سوف تظل، إن لم تخف أو تزول، نقطة ضعف، أو بقعة سوداء يستغلها المنافسون، تماماً كما يحدث الآن مع الصين بسبب قضية شعب الإيغور في مقاطعة سنكيانغ، بشمال غربي الصين.

أظن أن الهند وجهت الدعوة لمصر لتكون ضيف شرف في الاحتفال بيومها الوطني على أمل أن يكون في الدعوة والاستجابة لها ما يخفف من تلوث الصورة الهندية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وعلى أمل أن يري وفد مصر إلى الاحتفال عمق ومتانة الاندماج الاجتماعي في الهند وتعايش الهندوس والمسلمين والسيخ، وعشرات الأجناس والطوائف في دولة مستقرة سياسياً، تحت قبّة نظام ديمقراطي، ودرجة معتبرة من حرية الرأي والتعبير.

* خامساً: أظن أن التقارب الهندي المصري يجري ضمن توافق توصل إليه، كضرورة، أعضاء مجموعة «البريكس»، أي المجموعة التي تضم في صفوف عضويتها كلاً من: البرازيل وروسيا والهند والصين ودولة اتحاد جنوب إفريقيا. توافقوا منذ زمن على أهمية وضرورة ضم مصر إلى المجموعة، وبها تصبح «بريكس» مثل «أوبك» عندما انضمت روسيا إلى عضوية منظمة الدول المصدرة للنفط. أذكر أن الرئيس الصيني سبق أن أعلن أن «البريكس» منظمة غير مغلقة، وأن الرئيس البرازيلي، وكان وقتها لولا دا سيلفا في ولايته الأولى، تحدث مع مسؤولين مصريين في عهد الرئيس مبارك عن الانضمام للبريكس.

أشعر بأن ما تسعى إليه الهند من وراء دعوة مصر ضيف شرف والترحيب المصري بها يدخل تحت حالة الاستنهاض بتجربة في الماضي، نجحت وبعض آثارها باقية. أقصد العلاقة النموذجية التي قامت بين الهند ومصر والصين في مرحلة من أهم مراحل تطورها. أتصور أن هذه الدول هي الآن في أمسّ الحاجة للتعلق بالروح التي هامت في ذلك الوقت، روح الرغبة في التفوق والتعايش والحياد الإيجابي لمصلحة شعوبها، والسلم الإقليمي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3s7jxs7k

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"