الانتقام.. الكثيف والناعم والمثير

00:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

كثير هو ما يكتب ويقال عن اليوم التالي لتنفيذ اتفاق دولي يقضي بوقف القتال والقتل الجماعي في ربوع غزة.

* * *

تعددت في الاقتراحات الإشارة إلى حل الدولتين. لم يقرن بأي اقتراح منها خريطة للدولة الفلسطينية أو خريطة نهائية ترسم حدوداً للدولة الأخرى. أضافوا شرطاً حصل على إجماع الدول المهتمة بحل الدولتين ألا وهو شرط «دولة فلسطينية منزوعة السلاح». أفهم أن تشترط إسرائيل هذا الشرط، وأن تشترطه أمريكا وربما بعض الدول الحليفة. ما لم أفهمه هو أن تقبل به السلطة الفلسطينية قيداً على سيادة الدولة. كيف يرضى القائمون عليها أن يحكموا دولة بلا سيادة ولا حدود، دولة أراضيها تؤكل كل يوم قرية بعد أخرى وشعبها إن لم يهاجر فمصيره القتل.

* * *

كان مطروحاً بشكل من الأشكال عودة مصر لتولي مسؤولية إدارة القطاع، ويتردد بخبث أن الرفض المصري لهذا الطرح ربما يلين لو أن الجماعة الدولية المهيمنة على القروض والاستثمارات الخارجية ربطت بين سينا وغزة بمشروعات إعمار عديدة واستثمارات وفيرة. مصر رغم أزمتها، وحسب ما أعلم، ما تزال رافضة أي اقتراح يجر في أذياله أنواعاً من هجرة الفلسطينيين. ولكنها تدرك أن هذه الاقتراحات، ضمن جهود وضغوط كثيرة، لن تتوقف.

* * *

عشنا سنوات ونعيش ضغوطاً وحروباً وعقوبات ووعوداً في ظل محاولة صارخة لإبادة شعب فلسطين أو تهجير قطاع منه. ونعيشها كابوساً منذ قامت إسرائيل بقصف بعثة دبلوماسية لإيران في دمشق متسببة في قتل شخصيات إيرانية رفيعة المستوى وفي الوقت نفسه أعادت إلى صدارة المشهد قضية العلاقات العربية الإسرائيلية.

* * *

عشنا ليلة وصفتها بأنها كانت مثيرة. كان واضحاً أن خلافاً شكلياً وقع في العلاقة بين قمة القيادة السياسية في واشنطون وقمة القيادة السياسية في إسرائيل. أقول القمة لأن الخلاف لم يمس أسس الامتزاج الصهيوني الأمريكي. تصادف أن كلاً من الرئيس بايدن ورئيس الحكومة نتنياهو يمر بأزمة سياسية تمس شخصه ومستقبله السياسي. أقول أيضاً إن الأزمتين تناقضتا في الخيارات المتاحة أمام كل منهما. حانت الفرصة عندما تجاوز نتنياهو الخطوط الحمر في العلاقة مع الحليف الأمريكي فأمر أجهزته بالهجوم عسكرياً على بعثة إيران الدبلوماسية في دمشق دون استشارة واشنطن التي تحتفظ في سوريا بقاعدة عسكرية وتحافظ من خلالها على حساسية وضع استراتيجي شديد الحرج في الشرق الأوسط ومع إيران بخاصة.

* * *

لم تفاجئنا التسريبات الصادرة من واشنطن تعليقاً على تجاوز نتنياهو قواعد التحالف، أو قل الامتزاج الصهيوني الأمريكي.

* * *

في النهاية تسرب، بتعمد حسب رأيي، أن اتصالات غير مباشرة جرت بين واشنطن وطهران أقرت بحق إيران في الانتقام للغارة الإسرائيلية على السفارة في دمشق بشرط أن يكون معتدلاً، وأن أمريكا سوف تلجأ فور إتمام الغارة إلى تعبئة القوى السياسية لحلفاء أمريكا وإطلاق حملة إعلامية تشد من أزر الحليف الإسرائيلي.

* * *

وقع الانتقام الإيراني. كان في الشكل كثيفاً وفي الواقع ناعماً وفي آثاره مثيراً. عشرات المسيرات ومئات الصواريخ في موجات متلاحقة نحو لا أهداف محددة باستثناء واحد هو مطار مهم تضررت بعض ممراته ومخازنه وربما أشياء أخرى أخفاها الجيش الإسرائيلي في بياناته المتضاربة. الأهم أن لا ضحايا مدنيين، إنجاز هائل في حرب في الشرق الأوسط. إنجاز أكدته الولايات المتحدة حتى قبل أن تعلنه إيران أو تشكك فيه إسرائيل. مهم أيضاً السرعة التي خرجت بها أمريكا لتحصل مع بريطانيا وفرنسا على الفضل في «إحباط الهجوم الإيراني» قبل أن تعود وتعلن انتصار إسرائيل وتشن حملة إعلامية داخلية تجمع بين إعلان الفضل لأمريكا والثناء على كفاءة جيش إسرائيل.

* * *

هذا عن شكل الهجمة الإيرانية على إسرائيل وواقع تنفيذها، أما الآثار المباشرة وغير المباشرة فكثيرة وبعضها كاشف، منها: 1 استعاد بايدن مؤقتاً هيمنة أمريكا على تصرفات حكومة إسرائيل. ففي الشكل وأمام شعبه أنقذ إسرائيل وسوف يطلب الثمن من نتنياهو. 2 أوقفت أمريكا، ولو مؤقتاً، مسلسل هزائم إسرائيل في حربها ضد غزة. 3 بعد أن سمحت أمريكا لإيران بحرب محدودة تكشف فيها عن ضخامة ترسانتها من الصواريخ والمسيرات تستطيع الآن أن تستأنف وبسرعة المفاوضات لاستكمال تنفيذ مشروع الحلف ضد إيران والمقاومة الفلسطينية. 4 لمدة غير قصيرة أتوقع أن تتراجع بين يهود العالم مكانة إسرائيل كملاذ آمن لهم. 5 ولمدة أيضاً غير قصيرة أتوقع أن يستمر الأمن العربي القومي مهدداً وكذلك الاستقرار الداخلي في دول عربية أكثر على نمط ما حدث في أعقاب النكبة الأولى. 6 كسب بايدن، كمرشح للرئاسة الأمريكية، نقاطاً جديدة وإن محدودة في المنافسة مع ترامب. 7 يبقى مؤكداً أكثر من أي وقت مضى أن أمريكا مسؤولة كلياً عن جميع تهورات إسرائيل.

* * *

الأزمة ممتدة ولا حل حقيقياً أو عاجلاً في الأفق، فالأطراف، كلها أو أغلبها، مأزومة أو ضعيفة والوشائج بينها، كلها أو أغلبها، هالكة أو متهالكة، ومن أمامنا الغرب بزعاماته وحضارته في انحدار ومن ورائنا الشرق الناهض ما يزال بعيداً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4erxtmpy

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"