المواطنة حين اتسعت مساحتها

01:09 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز
حين بدأ التمثيل السياسي في بلدان أوروبا، وبدأت معه البرلمانات والمجالس في التشكل، لفترةٍ امتدّت قرنين قبل الثورة الفرنسية، كان حقّ التّصويت كما حق الترشح نخبويين تماماً، ومقصورين على النّبلاء والأرستقراطيين وعلى البرجوازيّة؛ أي على القوى الاجتماعيّة المالكة لوسائل الإنتاج حصراً وبالتالي، ما كانا حقّاً من حقوق المواطنة فعلاً، خلافاً لِما كانت تشدِّد عليه نصوصُ الفكر السياسي، بل حتّى الدساتير نفسها في قسمٍ من أوروبا، من نصٍّ على الحقّ في التّمثيل والتّشريع، وعلى أنّه حقٌّ مكفول لجميع المواطنين من الدّولة. وما غيّرتِ الثّورة الفرنسيّة ومبادئها، ولا الدستور الأمريكيّ قبلها، من هذا الواقع شيئاً؛ حيث ظلّ الإقصاءُ الاجتماعيّ قائماً في النّظام التّمثيليّ والفجوة بين الواقع الفعليّ وما تنطق به النّصوص صارخةً ومُعاداً إنتاجُها!

ولقد استمرّت الحال كذلك على نحوٍ بات يذكِّر الأوروبيّين بالدّيمقراطيّة الأثينيّة ونخبويتها وضمور قواها الاجتماعيّة المشارِكة، ويزيد من تعاظمِ نفوذ الأفكار المناهضة لليبراليّة والرأسماليّة وقدْحها المستمرّ في نموذج نظامها الاجتماعيّ- الاقتصاديّ ونظامها السّياسي (وتلك كانت حال النّقد الفكريّ والسّياسي الماركسي في ذلك الوقت). وكان على مجتمعات أوروبا وتطلّعات شعوبها إلى إقرار مثل تلك الحقوق المهضومة أن تنتظر، طويلاً، إلى بدايات القرن العشرين لكي تشهد على تغييرات جديدة في نظام التّمثيل السّياسيّ.

هكذا أصبح في وسع الطّبقات الوسطى، مثلاً، كما في وُسْع العمّال أن يلج مرشحوهم البرلمانات أسوة بغيرهم من المنتمين إلى طبقات اجتماعيّة أرقى في المكانة الطبقية. ولم يكن ذلك، دائماً، نتيجة تصحيحٍ اختياريّ لأوضاع التّمثيل من النّخب البرجوازيّة الحاكمة، بل الغالب عليه أنّه كان ثمرة ضغوط سياسيّة لمراجعة سنّ التّصويت بخفضه، ولمراجعة مَن يشملهم حقّ الاقتراع والترشح. وما من شكٍّ في أنّه كان للحركات النّقابيّة العمّاليّة ولحركات اليسار الاشتراكيّ ونضالاتها المطلبيّة المتصاعدة أكبرُ الأثر في حمْل سياسات الدّولة الحديثة - في عهدها البرجوازيّ- على إحداث تعديلات حاسمة في نظام التّمثيل بما تتعزّز به منظومةُ حقوق المواطنة.

ولم يكنِ القصورُ في حقّ التّمثيل السّياسي منحصراً في تغييب هذه البيئات الاجتماعيّة المشار إليها (الطّبقة الوسطى، العمّال) عن الاقتراع والمشاركة في المؤسّسات المنبثقة منه، بل ظلّ نظامُ الدّولة الوطنيّة يستثني النّساء - وهنّ يشكّلن نصف المجتمع - من ممارسة حقٍّ من حقوق المواطنة هو: الحقّ في المشاركة السّياسيّة؛ إذْ ما كان لهنّ أن يشاركن في الانتخابات لا تصويتاً ولا ترشيحاً - أُسوةً بالرّجال - لتظلّ الدّيمقراطيّة، المطبَّقة آنئذ، «ديمقراطيّة ذكوريّة». ومرّةً أخرى كان لا بدّ من انتظار فترة طويلة، امتدّت إلى ما بعد الحرب العالميّة الثانية، كي تصل النّساء إلى لحظة انتزاع هذا الحقّ من حقوق المواطنة المصادَر منهنّ منذ آلاف السّنين. وما كان حصولهنّ عليه مِنّةً من أحد، بل ثمرة نضالات حقوقيّة خاضتها الحركات النّسائيّة مدعومة من القوى الدّيمقراطيّة في العالم.

على أنّ ثمّة عواراً ثالثاً تنخدش به صورةُ المواطنة في الدّول الوطنيّة الحديثة، ويمثّل افتضاحاً كبيراً للخطاب السّياسيّ الغربيّ بصورة خاصّة. يتعلّق الأمر في هذا بظاهرة الميْز العنصري داخل المجتمع الوطني الواحد؛ حيث قسم من المنتمين إلى الدّولة - أو من المحسوبين كذلك نظرياً - مقصِيٌّ، عملياً، من الحياة العامّة ومن التمتع بمنظومة الحقوق فيها أُسوة بسائر المواطنين (البيض خاصّةً). وعلى الرّغم من إلغاء العبوديّة، رسميّاً، في الولايات المتّحدة في عهد أبراهام لِنكولن، استمرّ الميْز العنصريّ البغيض ضدّ السّود في ولايات البلاد كافّة كما في جنوب إفريقيا العنصريّة.

ولم يقع تصحيح هذه الشّائبة الكالحة والنّكراء وإعادة الاعتبار إلى المعنى الشّامل للمواطنة، عملياً، إلاّ بعد النّجاح الذي أحرزته حركة الحقوق المدنيّة الأمريكيّة، بزعامة مارتن لوثر كينغ، في أن تضع حدّاً نسبيّاً لذلك الميْز في ستينات القرن العشرين. ثمّ ما لبث هذا الانتصار أن تعزّز، بعد نيّفٍ وعقدين، بانتصارٍ نظيرٍ على سياسات الميْز، وذلك بعد النّجاح الذي حقّقه «المؤتمر الوطنيّ الإفريقيّ» - في جنوب إفريقيا - في إنهاء نظام الأپارتهايد في مطالع عقد التّسعينات الماضي.

من الواضح، إذن، أنّ لمفهوم المواطنة في الفكر، ولمضمونه في التّطبيق السّياسيّ تاريخاً تطوّر فيه واغتنى باكتساب أبعادٍ جديدة إلى أن حصل شكل ما من «التّطابق» بين واقعه الماديّ السّياسيّ ومفهومه النّظريّ. على أنّه، في مقابل هذا النّموّ الذّاتيّ في المعنى، كانت تَعْرِض له - في الوقت عينِه - ظروفٌ أخرى مفاجئة ومعاكسة تنال منه ومن معناه أيضاً، بل إنّ بعض تلك الظّروف الطّارئة بلغت تأثيراته حدّ التّهديد بزوال المواطنةِ نفسها والاعتياض بغيرها عنها!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3552j985

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"