عادي

قمة العشرين.. فشل الحوكمة العالمية

23:04 مساء
قراءة 4 دقائق

د. أحمد قنديل*

أدت الانقسامات العميقة بين القوى الكبرى بشأن الحرب في أوكرانيا إلى عدم تمكن اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين، الذي انعقد في نيودلهي في 2 مارس (آذار) الماضي، من الاتفاق على بيان ختامي مشترك. واعترف وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار بأن بلاده، التي تتولى الرئاسة الحالية لمجموعة العشرين، «لم تستطع التوفيق بين الأطراف، لأن لديهم وجهات نظر مختلفة» عبروا عنها في الاجتماع.

الاجتماع الذي حضره 40 ممثلاً من بينهم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلنكين ونظيريه الروسي سيرغي لافروف والصيني تشين جانغ كشف عن انقسام تجاه الحرب الأوكرانية، الأمر الذي دفع المنظمين إلى إصدار«وثيقة ملخص ونتيجة»، بعد الاجتماع، وهي الوثيقة التي تشابهت في لغتها إلى حد كبير مع بيان مماثل أصدرته الهند بعد اجتماع لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية للمجموعة في شهر فبراير (شباط) الماضي.

ويؤكد هذا الفشل في إصدار بيان مشترك عن اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين ما وصفه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، في كلمته الافتتاحية لهذا الاجتماع، بأن «الحوكمة العالمية فشلت» في مواجهة التحديات الأكثر إلحاحاً في العالم، خاصة فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، والأزمة المالية العالمية، والتغير المناخي، وجائحة كورونا، والإرهاب.

معضلة أمنية واقتصادية جديدة

ويكشف هذا الفشل أيضاً عن المعضلة الأمنية والاقتصادية، التي أصبحت تواجه عدداً من دول مجموعة العشرين في التعامل مع الانقسامات العميقة بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى. وتتضح هذه المعضلة بوضوح في حالة الهند، التي أصبحت هذا العام أكبر دول العالم سكاناً مع تفوقها في عدد السكان على الصين. إذ إن نيودلهي تشاطر، إلى حد كبير، واشنطن وعدداً من حلفائها في العواصم الأوروبية والآسيوية مخاوفها بشأن الصعود العسكري والاقتصادي لبكين، الجار اللدود الذي تتنازع معه عدة مناطق حدودية. إلا أن نيودلهي، من جهة ثانية، تعتبر أيضاً مشترياً رئيساً للأسلحة الروسية، كما أنها زادت وارداتها من النفط الروسي عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، ما حقق لها مكاسب مالية ضخمة.

وقد أدت هذه المعضلة إلى أن تلعب الهند لعبة مزدوجة. فمن جهة، حرصت على عضوية الاتفاق الرباعي (كواد)، والذي يضم إلى جانبها كلاً من الولايات المتحدة وأستراليا واليابان، بهدف محاصرة واحتواء الصعود الصين، إلا أنها، من جهة أخرى رفضت إلقاء مسؤولية الحرب على موسكو، وامتنعت عن الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا، مع الاكتفاء بقول مودي لبوتين إن «هذا ليس وقت حرب». كما دافعت نيودلهي أيضاً عن قرارها زيادة وارداتها النفطية من روسيا، قائلة إن عليها أن تهتم باحتياجات النفط لأكثر من 1.4 مليار شخص.

نجاحات هندية.. و«حرب اتهامات»

الموقف الهندي المتوازن نسبياً في مواجهة «فشل الحوكمة العالمية» نجح، خلال الاجتماع في إبقاء وزير الخارجية الروسي لافروف في قاعة الاجتماع، بينما كانت تنهال عليه انتقادات الغربيين، بقيادة نظيره الأمريكي. وكذلك نجح الموقف الهندي أيضاً في ترتيب اول اجتماع بين الوزيرين للمرة الأولى منذ بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهو ما اعتبره كثير من المراقبين بمثابة «إنجاز دبلوماسي» للهند وبداية «خجولة» للعودة إلى طاولة التفاوض في «الوقت المناسب».

ومع ذلك، لم يؤد الموقف الهندي المتوازن إلى وقف حرب الاتهامات التي سادت الاجتماع، حيث اتهم لافروف ونظيره الصيني الدول الغربية باستخدام «الابتزاز والتهديدات»، لفرض وجهات نظرها. كما رفض الوزيران أيضاً ما أسمياه «محاولات التدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، بغية فرض نهج أحادي الجانب من خلال التهديدات». كما أصر لافروف أيضاً في كلمته أمام الاجتماع، على ضرورة إجراء «تحقيق عاجل وشفاف»، بشأن «الهجمات الإرهابية» التي استهدفت خطوط أنابيب نقل الغاز «نورد ستريم»، متهماً الغرب ب «دفن» اتفاق للسماح ببعض الصادرات من الحبوب الأوكرانية.

ومن جهته، قال وزير الخارجية الأمريكي إن الهجوم الروسي على أوكرانيا «عكّر صفو» الاجتماع، مطالباً المجموعة بحثّ موسكو على «سحب قواتها.. وبإنهاء حملتها التدميرية المتعمدة ضد أهداف مدنية، وهجومها على المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة».

على أية حال، يمكن القول إن الاجتماع الأخير لوزراء خارجية مجموعة العشرين رغم أنه لم يحقق ما كان مأمولاً منه للتعامل مع أكثر الأزمات العالمية إلحاحاً، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أنه قد كشف عن تغيرات عميقة في هيكل وتفاعلات النظام الدولي والعلاقات الدولية بصورة عامة. ولعل من أهم هذه التغيرات هو ما ظهر بوضوح في مواقف الدول الطامحة، مثل الهند، إلى لعب دور أكبر في نظامٍ عالمي جديد. حيث سعت نيودلهي من خلال البراغماتية السياسية والاقتصادية، والحياد السياسي، إلى التعبير بقوة عن حضورها في التحولات العالمية الجديدة، من دون أن تضطر إلى الاصطفاف خلف إرادة أحد أطراف الصراع العالمي الراهن بين الدول الكبرى، ومن دون إرسال أسلحتها إلى أوكرانيا، وذلك في لحظة محفوفة بالمخاطر، وتضيق معها هوامش المناورات، وفرص الاستقلال بالرأي والتوجه.

وفي هذا السياق، من اللافت أن الهند سعت أيضاً إلى أن تكون «صوت الجنوب» من خلال تسليط الضوء على القضايا التي تعانيها شعوب جنوب الكرة الأرضية، وخاصة فيما يتعلق بأمن الغذاء والطاقة والأسمدة الذي يؤثر بشكل خاص في الدول الأقل ثراء. وفي هذا السياق، نجحت الهند في إعطاء مساحة إضافية للدول النامية في مجموعة العشرين، تمثلت في قبول الاتحاد الإفريقي كعضو جديد، بعد ست سنوات من انضمام الاتحاد الأوروبي إلى المجموعة. وربما يساهم ذلك بشكل كبير ليس فقط في علاج «فشل الحوكمة العالمية»، وإنما أيضاً في إنجاح القمة الثامنة عشرة المرتقبة لرؤساء دول وحكومات مجموعة العشرين، والمقررة عقدها في الفترة من 9 إلى 10 سبتمبر(أيلول) 2023 في نيودلهي.

* خبير الشؤون الآسيوية ورئيس وحدة الدراسات الدولية بمركز الأهرام للدراسات

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3dkcbpv5

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"