عادي
قرأت لك

حبيب الصايغ.. الشعرية الغنائية

15:30 مساء
قراءة 4 دقائق
  • الناشر: اتحاد كتاب وأدباء الإمارات

الشارقة: يوسف أبولوز
حبيب الصايغ 1955-2019، يُقْرأ في أكثر من مستوى فني وأسلوبي وبلاغي وحتى تشكيلي، فهو في بعض قصائده القصيرة تحديداً يرسم بالكلمات، وإذا أردت الصايغ عمودياً خليلياً تماماً تجده في نصوص مشغولة بكل حرفية إبداعية أدبية، وإذا أردته تفعيلياً تجده في نصوص غنائية عديدة تكاد ترشح منها الموسيقى، وإذا أردت الصايغ شاعر قصيدة نثر تجده في نصوص «ملمومة»، موجزة في لغة منضبطة، وإلى جوار ذلك وكما هو معروف، إذا أردت حبيب الصايغ ناثراً أدبياً فنياً تجده في الكتابة الحرّة التي يجد فيها نفسه وحرّيته الجمالية والبلاغية، وإذا أردت الصايغ صحفياً تجده في العمود وفي الحوار وفي التعليق وفي التحليل بقلم يرشح دائماً بالوعي والصدق والجرأة والوطنية النظيفة. وإذا أردت حبيب الصايغ إدارياً ومدبّراً مؤسساتياً ونقصد هنا اتحاد كتّاب الإمارات، والاتحاد العام للكتّاب والأدباء العرب تجد رجلاً مرناً، لكنه مبدئي وقانوني وأخلاقي في قراراته وفي معالجاته الإدارية الصعبة حين تكون هذه المعالجات بين مثقفين وكتّاب الغالبية العظمى منهم: مزاجيون وعلى درجة لا بأس بها من النرجسية وبالونية الذات.

لكنني هنا اقرأ حبيباً واحداً فقط بعد غياب مفاجئ وَمُخَسّر في الوقت نفسه، فقد رحل حبيب في ذروة عطائه الأدبي والصحفي والثقافي، وكان دائم الأمل والتفاؤل والعشق الخارق للشعر الجيد وللشعراء الجيّدين من دون أن يلغي أحداً، أو يستعلي على كينونة أحد.

* براعة

أقرأ هنا حبيب الصايغ شاعر القصائد القصيرة بشكل خاص، ففي هذا النوع من الشعر تظهر براعة حبيب الغنائية والموسيقية والإيقاعية، وهي سمات أصيلة للقصائد القصيرة التي تُسَمّى عند بعض النقاد قصائد الحالة الشعرية، أو قصائد اللقطة، أو قصائد الصورة، أو قصائد الموقف، وأياً كان توصيف هذا النوع من الشعر، فإن حبيب الصايغ كان يكتبه بلا تجنيس مُسْبق. كان حبيب الصايغ شاعراً من رأسه حتى آخر قدميه. كلّه شعر في شعر. وإذا بحثت عن قصد في نسيج مقالته الصحفية ستجد على الأقل ظلالاً شعرية نائية في الكتابة المهنية، أما هو كشخص ففي داخله طفولية الشاعر أو طفولية الإنسان البسيط حين يجد سعادته الشخصية في كلمة، أو في موقف أو في حالة ذاتية عادية تماماً، ولكنها بالنسبة لشاعر في مثل حساسية حبيب ممتلئة عادة بالجمال الإنساني العظيم.

لابد من هذه المقدّمات حول شخصية حبيب الأدبية والإنسانية لكي نفهم بالتالي شعره جيداً، وندرك لماذا يتحول حبيب الصايغ، وبخاصة في القصائد القصيرة إلى موسيقي أو إلى مغنٍ أو إيقاعي ممتلئ، مرة ثانية، بالجمال الإنساني العظيم.

عند الصايغ قصيدة قصيرة بعنوان «نجمة» في مجموعته الشعرية «كسر في الوزن» ضمن المجموعة الكاملة للشاعر، إصدار اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وتلك هي القصيدة:-

تتناسل في ضوء عتمتها

أو تحاول،

لكنها الآن تبهتُ أبْعَدَ

حتى تكاد تموت

وتومضُ ثانيةً

لتصارع أقدارها

نجمة العنكبوت

تَتَناسَلُ مثل السلالة حيناً

وتنسَلُّ مثل الشعاعْ

ثم تذهب في دربها

غير عابئة

وهي ترعى خراف الضياعْ.

القصيدة التفعيلية هذه جاءت على وزن (فاعلن) أو صورة عنها أي (فَعِلُنْ)، وهي تفعيلة سائدة كثيراً في الشعر العربي المعاصر عند حبيب وعند عشرات الشعراء العرب الكبار وذلك لسرعة هذه التفعيلة وغنائيتها ومرونتها في الوقت نفسه، غير أن حبيب الصايغ الغنائي، الإيقاعي، الموسيقي بفطرته الشعرية يعتمد على قافيتين في هذه القصيدة القصيرة المكوّنة من 12 سطراً فقط.. قافية التاء في كلمتين: «تموت» و«العنكبوت»، وقافية العين في كلمتين أيضاً هما: «الشعاع» و«الضياع»، وبكلمة بسيطة، إن هذا التنوّع السريع في القافية، وإغلاق القصيدة بحرف العين، وهو حرف إيقاعي بارز الصوت إن أمكن القول.. أقول إن هذا التنوّع في قصيدة قصيرة هو ذاته طبيعة حبيب الإيقاعية، الغنائية، الموسيقية، وهو كثيراً ما يستخدم هذا التنوّع وهذه القوافي والنهايات ذات الأصوات البارزة في هذه المجموعة بالذات التي تغري قراءتها بالبحث عن روح الغنائية، وروح الموسيقى الإيقاعية والتفعيلية عند حبيب الصايغ في الوقت نفسه.

في قصيدة أخرى بعنوان «شراع» ينتقل حبيب إلى تفعيلة أخرى من بحر الرجز هي «مستفعلن» أو إحدى صورها، ويعتمد على قافية واحدة من حرف السين:..

على ضفاف بحر الوقت مَرَّ بغتةً شراع واحتار فيه النّاسْ

قال الغريب أنه خيوط عين الشمس

قال المغني أنه البياض

واستدرجه نحو السماء قوسْ

وقالت المرأة: بل تشكيل موج

هائج في الرأس.

من طبيعة التنوّع الموسيقي، القافياتي، الإيقاعي عند حبيب أنه لا يركن إلى بحر بعينه، وإلى تفعيلة بعينها، فها هو ينتقل من المتدارك إلى الرجز، هذا الانتقال في حدّ ذاته تلوين موسيقي يجعل لشعره طبيعة متحركة.

في قصيدة أخرى بعنوان «الأسماء» ينتقل حبيب إلى تفعيلة «فَعْلُنْ» من البحر المتدارك أو إحدى صورها، ويقول وقد اتخذ للقصيدة قافية الألف المنتهية بهمزة - ساكنة:

(من ذا، بين الطلقة والطلقة

ينكش شعر الأسماءْ

لتكون، كعادتها،

جثثاً طافية فوق الماءْ)...

.. وهو تنوّع موسيقى آخر على مستوى التفعيلة، وعلى مستوى القافية، ومرة ثانية، تلك هي الروح الموسيقية عند حبيب التي تمدّ شعره بالحيوية والحركة وعدم الثبات في بحر بحدّ ذاته أو تفعيلة في حدّ ذاتها الأمر الذي يجمّد بالتالي روح الشعر.

* تجدد

في قصيدة «لا تسأليني كم أُحبّك» يذهب حبيب إلى تفعيلة «متفاعلن» أو إحدى صورها من البحر الكامل، مرة ثانية، كي لا يقف في منتصف النهر، لا بل لعلّنا نستعيد هنا ما قاله هيرقليطس أن المرء لا يقطع النهر الواحد مرتين، الماء يتجددّ أبداً، وكذلك أنت لا تصغي إلى الشعر الموسيقى التنوّعي، متعدّد التفعيلات مرّتين.. هنا يستخدم حبيب قوافي متباعدة: «قلاعها»، «أوجاعها»، «سراعها»، و«وداعها»، «ضياعها»، ولكن على رغم هذه القوافي الساكنة، التي تبدو كأنها تنتهي بلا صوت، إلا أنها تنطوي أيضاً على غنائية حبيب المتجددة دائماً.

الصورة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/555jv72w

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"