عادي

«أصلح سريرتك».. المؤمن يرجو الآخرة

01:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
لوحة

الشارقة: علاء الدين محمود

«أصلحْ سَرِيْرَتَك يصلح اللهُ علانيتَك، وأصلح فيما بينك وبين الله يصلحِ الله فيما بينك وبين الناس، واعمل لآخرتك يكفِك الله أمر دنياك، وبع دنياك بآخرتك تربَحْهما جَميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً».

ذلك القول الناصع، والبيان الساطع هو لسفيان الثوري، «97 ه - 161 ه / 715م - 778م»، وهو أبو عبد الله بن سعيد بن مسروق الثوري، فقيه كوفي، وأحد أعلام الزهد عند المسلمين، وإمام من أئمة الحديث النبوي، وواحد من تابعي التابعين، وصاحب مكانة علمية كبيرة، فقد قال عنه الذهبي: «هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب الجامع»، وقال شعبة بن الحجاج: «ساد سفيان الناس بالورع والعلم»، وقال قبيصة بن عقبة: «ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكرت الموت، ما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه»، نشأ الثوري في الكوفة وتلقّى العلم بها، وسمع من عدد كبير من العلماء، حتى صار إماماً لأهل الحديث في زمانه، طلبه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ومن بعده ابنه المهدي لتولي القضاء، فتهرّب منهما وأعياهما، حتى غضبا عليه وطاردوه حتى توفي متخفياً في البصرة.

وتلك الموعظة، هي من باب الإيمان، ويخبر فيها الثوري، بأمر الحقائق وأسرار الطريق إلى الله، تعالى، فهو درب طويل ومحفوف بالمصاعب والمكاره ومغريات الدنيا، لكن المؤمن الحق يتمسك بالزهد، فيترقى من منزلة إلى أخرى، وهنالك الكثير من تلك المراتب العالية الرفيعة التي يسعى إليها السائر في درب الإيمان بزاد المحبة، لا يشغله عن ذلك شيء من شواغل الحياة، فقد صفت روحه وغمرته الأنوار وخلص قلبه لله عز وجل.

إصلاح النفس

ولعل تلك المقولة التي تفيض بالحكمة، من أشهر أقوال الوعظ، فقد كان العلماء يوصي بعضهم بعضاً بتلك الدرر، التي تدعو لأن يصلح الإنسان نفسه، فذلك هو المبتدأ في طريق التلقي والأنوار لنيل رضا الله، تعالى، فتلك دعوة لتطهير البواطن والحذر من آفات القول والعمل، وأمراض القلب والنية، فإن الذين يصدقون مع الله يصدقهم فيفوزون بسعادة الدنيا والآخرة، فإن لكل إنْسَان باطناً وظاهراً، فالباطن ما كَتم وأَسرَّ، والظاهر ما أبدى وأظهر، والله، سبحانه وتعالى، يعلم السر والجهر، وما أخفى العبد وأظهر؛ فليس شيء في القُلُوبُ يَخْفَى عَلَى عَلاَّمِ الغُيُوبِ والأصل في المؤمن الصادق أن تستوي سريرته وعلانيته، وظاهره وباطنه.

وقد حرص الإسلام في تعاليمه ومثله وقيمه، على صلاح الظاهر؛ وذلك من أجل مجتمع تسود فيه الأخلاق الطيبة الكريمة، كما أنه حرص كذلك على نقاء السرائر، فذلك هو المحك الحقيقي؛ حيث إن صفاء الباطن هو الذي يقود إلى صلاح الظاهر، ومعاني مثل تلك الأقوال مأخوذة من أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد حرص على أن يربي أمته أحسن تربية، ويقومها التقويم السليم الصحيح؛ حيث إن صلاح الباطن يتمثل في صفاء القلب ونقائه، ونظافته وطهارته من كل ما يعيب في النية أو الاعتقاد، أو فيما يبطنه الإنسان من سريرة، أو يكون في قلبه من مرض أو حسد أو ضغن، وصلاح الدواخل ينعكس على ظاهر المرء، فيحسن خلقه ويتجلى ذلك في تعامله مع الآخرين، فيصبح ظاهر المؤمن الحق مثل باطنه، فيعكس وجهه ما يحمل قلبه، ليصبح مظهره كجوهره.

وقد كان سفيان الثوري نفسه، مثالاً للزهد والورع، وما تلك الموعظة التي أطلقها إلا نتاج تجربة عظيمة في حياته التي قضاها في عبادة الله تعالى ومخافته وتركه لكل ما من شأنه أن يفسد قلبه وعمله، فقد روي عن الثوري قوله: «الزهد زهدان: زهد فريضة، وزهد نافلة، فالفرض: أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة، والتزين للناس، وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال، فإذا تركت شيئاً من ذلك صار فريضة عليك ألا تتركه إلا لله». ولعل في أقول ومواعظ الثوري الكثير من الحكمة والمعاني التي تنشد الفضيلة وتهذيب النفوس، وله في ذلك الشأن الكثير من المأثورات التي صارت تتردد بين المؤمنين، فقد أخرج أبو نعيم في «الحلية» بسنده إلى مبارك أبي حماد قال: سمعت سفيان الثوري يقرأ على علي بن الحسن: «لا تحسدن ولا تغتابن فتذهب حسناتك»، كما كان يقول: «المال داء هذه الأمة، والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه، فمتى يبرئ الناس؟»

وخلاصة تلك الموعظة للثوري، أن كل عمل المرء المؤمن في هذه الدنيا، يجب أن يكون خالصاً لله، تعالى، ففي ذلك تأكيد للزهد في الحياة من أجل الآخرة وحسن الثواب، فالذي يبيع أخرته من أجل دنياه فلا شك أن في ذلك خسران كبير، بينما الفائز الحقيقي هو الذي يعمل في سعي دؤوب من أجل أن ينال الرضا في الآخرة فيلقى ربه بقلب سليم وعمل صالح؛ حيث إن تلك المقولة هي بمنزلة تذكرة وتنبيه للغافلين الذين أغرتهم الحياة بما فيها من متاع زائل.

ولم يكن الثوري يدعو إلى ذلك النوع من الزهد الذي ينعزل فيه المرء عن الناس والحياة تماماً؛ بل كان يحرض على العمل والاندماج في الحياة فذلك هو السبيل في أن يختبر المرء أقواله وأعماله؛ حيث كانت للثوري آراؤه الخاصة في هذا الشأن، فيروى عنه قوله: ليس الزهد بأكل الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت.

وكل تلك المواعظ للثوري تشير إلى أن الحياة الدنيا وما فيها من مصاعب وتحديات وشقاء هي الاختبار الحقيقي للمؤمن من أجل الفوز بسعادة الآخرة فهي دار البقاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3p6278dv

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"