حكايات جبرا

02:05 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

في العام 1945، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقبل النكبة الفلسطينية، كان جبر إبراهيم جبرا يجلس في مقهى بالقدس، وفيه تعرّف إلى امرأة وصفها ب«الجذابة والذكيّة»، اسمها هايدي قدّمت نفسها إليه على أنها نحاتة وتدرس النحت في بغداد، وزوجها آثاري مشهور، وكان جبرا قد أنهى يومها دراسته الجامعية في جامعة هارفارد بإنجلترا وعاد إلى فلسطين، حيث أصبح رئيساً لنادي الفنون ومدرساً للأدب الإنجليزي في الكلية الرشيدية، ويكتب الشعر بالإنجليزية وينشره، ويبدو أن تلك المرأة قرأت بعض ما نشر، ففاجأته بالقول، وقد جاءت قهوتهما: «حدثني عن حياتك، يقولون إنك عشت وما زلت حياة مثيرة».

ردّ عليها جبرا بشيء من الدهشة: «حياة مثيرة؟ أنا لست بطل الأبطال»، قبل أن ترد عليه: «لا أعني ذلك النوع من الحياة. حدثني عن تجربتك النفسية والذهنية، وعلاقاتك العاطفية»، ويعترف بأنه في لمح البصر عاوده خليط من أحداث طفولته ومراهقته وسنواته في إنجلترا بتداخل وتسارع عجيبين، ووعد المرأة بأنه سيفعل ذلك ذات يوم، لكن ليس الآن لأن القصة طويلة.

في مقدمة سيرته «البئر الأولى» التي وصفها بأنها فصول من تلك السيرة، الصادرة في العام 1987، عاد جبرا إلى حكاية لقائه بتلك المرأة، وعلينا أن نقف عند عدد السنوات الفاصلة بين عامي 1945 و1987، البالغة أكثر من أربعين سنة، حيث أصبح لجبرا ذكريات وتجارب تعدّ أضعاف ما كان لديه منها وهو شاب في مقتبل العمر يوم طلبت منه المرأة أن يحكي لها عن حياته.

وهو يشرع في كتابة «البئر الأولى» أدرك جبرا ما يشعر به كل من كتبوا سيرهم الذاتية أو سعوا إلى ذلك، حين يبدون حائرين أمام الكمّ الهائل من تفاصيل ما مرّوا به، والتي يصعب، بل ويستحيل استعادتها كاملة لعدة أسباب؛ بينها النسيان الذي ينال من الإنسان مع مرور سنوات عمره، وبينها المحاذير المحيطة التي تجعله يتردد في ذكر وقائع تتصل بذوات أخرى، ما قد يثير حفيظة أصحابها أو ورثتهم، وبينها غياب الشجاعة الكافية لكاتب سيرته في البوح ب «كل شيء»، خاصة في مجتمعاتنا التي تكثر فيها المحذورات و«التابوهات».

في مقدّمة كتابه أشار جبرا إلى النسيان وإلى فقدان الكثير من الرسائل والوثائق التي تلزمه لتدوين سيرته، لكنه لم يشر إلى بقيّة الأسباب، ولكنه آثر، بعد أن أعاد النظر مراراً في ما يرغب بتناوله، أن يحصر الأمر في ذكريات الطفولة وحكاياتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4yak8rvm

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"