عادي
زادر القلوب

الزهد.. صلاح النفس في التقوى

17:05 مساء
قراءة 5 دقائق
لوحة خطية لمنير الشعراني
الشارقة: علاء الدين محمود
«إن لله عبادًا أسكنهم دار السلام، فأخمصوا البطون عن مطاعم الحرام، وأغمضوا الجفون عن مناظر الآثام، وقيدوا الجوارح عن فضول الكلام، وطووا الفرش وقاموا في جفون الظلام وطلبوا الحور الحسان من الحي الذي لا ينام، فلم يزالوا في نهارهم صياماً، وفي ليلهم قياماً حتى أتاهم ملك الموت عليه السلام».
تلك الكلمات التي تشع نوراً وتشرق ضياءً، هي لثوبان بن إبراهيم، وكنيته «أبو الفيض» ولقبه «ذو النون»، وهو أحد علماء المسلمين في القرن الثالث الهجري ومن المحدثين الفقهاء، ولد في أخميم في مصر سنة 179 هـ الموافق 796 م وتوفي سنة 245 هـ الموافق 859 م. ويعد من كبار العلماء وأصحاب التجارب الصوفية وأكثرهم وورعاً، وحالاً، وأدباً ومعرفة، وهو من المحدثين الفقهاء، وله العديد من الكتب والمؤلفات أبرزها «حل الرموز وبرء الارقام في كشف أصول اللغات والاقلام»، وقد روى الحديث عن مالك بن أنس والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، درس على علماء عديدين وسافر إلى سوريا والحجاز، ويذكر العلامة القشيري في رسالته أن «ذو النون»، هو أول من وضع تعريفات للوجد والسماع والمقامات والأحوال.
وكان ذو النون أول من تكلم بالتصوف في أرض مصر، فقد تحدث بعلوم المقامات والأحوال، ولم تكن الأرض تحته مهيأة تماماً لتقبل الفكر الصوفي، فقد كان خصومه يتربصون به، فلقي من أمره عنتاً، فقد انفض من حوله العلماء والفقهاء في مصر، وأفسدوا الأجواء حوله حتى لا يقترب منه أحد، وكان ذو النون يقابل تلك الهجمة بالصمت والإطراق، ولجأ إلى حيلة التورية والترميز في أقواله، وعلى الرغم من ذلك فقد كان ذو النون من المعتدلين في المذهب الصوفي، فلم تعرف عنه تلك الشطحات التي ارتبطت ببعض المتصوفة، لكن الكيد ذهب بالأعداء والخصوم حد أن شكوه إلى الخليفة المتوكل، بعد أن أوغروا صدره تجاهه، فاستدعاه المتوكل إليه في عاصمة الخلافة العباسية، فلما دخل عليه ذو النون قام بوعظه وسرد له قصصاً مؤثرة في الدين، فبكى المتوكل، وقام يخطو حتى عانق ذا النون، وقال له: «أتعبناك يا أبا الفيض».
*أحوال
المقولة التي افتتحنا بها الكلام عن ذلك الزاهد تحمل الموعظة الشفيفة والإرشاد الذي يريد به صاحبه أن يتجه كل الناس في دروب الحق، فهي تتحدث عن أهل الطريق، الذين انصرفوا بكل مشاعرهم وجوارحهم إلى عبادة رب العالمين، حيث تهيأت أنفسهم لقبول المدد والاشراق والفيض، فصفت قلوبهم وأرواحهم، وكانت طاعاتهم وعباداتهم وأعمالهم وحركاتهم وسكناتهم خالصة لله تعالى، فقد زهدوا في الدنيا وطلبوا الآخرة، وتجنبوا المعاصي، وآثروا الصمت على الحديث في ما لا يرضى الله عنه، فهم في نهارهم صياماً، وفي ليلهم قياماً يتهجدون ويتعبدون ويناجون ربهم، وتلك هي حالهم حتى يلقوا الله تعالى، راجين منه الجزاء وحده، ليفتح لهم أبواب النعم والجنان في الآخرة التي هي الحياة الحقة، ورحمة الله واسعة ولا ينبغي للعبد أن يقنط منها، وفي ذلك يقول ذو النون المصري: «كنت يوماً على شاطئ النيل فرأيت عقرباً، فأردت قتلها فهربت، وركبت على ظهر ضفدعة، فقامت بها حتى وصلت إلى الجانب الآخر، فنزلت عن ظهرها، فإذا برجل نائم وهو سكران، وثعبان قد أقبل ليلدغه، فأسرعت العقرب نحو الثعبان فلدغته فتقطع، فأيقظت الرجل فنهض مذعوراً، فأخبرته فطرق، ثم قال: «يا رب هكذا رحمتك على من عصاك، فكيف بمن أطاعك، فوعزتك لا أعصينك أبداً».
وتلك الكمات المنيرة تعبر عن منهج «ذو النون» في التصوف فقد اختار طريق الزهد والابتعاد عن المعاصي، وكثيرة هي الحكايات والقصص التي تتحدث عن شخصية هذا العابد المتقشف المعتزل لكل مغريات الحياة، ومنها ما ذكره يوسف بن الحسين: عندما قال: «حضرت مع ذي النون مجلس المتوكل، وكان مولعاً به، يفضله على الزهاد، فقال له: صف لي أولياء الله، فقال: يا أمير المؤمنين هم قوم ألبسهم الله النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من إرادة كرامته، ووضع على مفارقهم تيجان مسرته، فأعجب به وأعاده إلى مصر معززاً مكرماً».

**نصائح
ولعل تلك القيم والمعاني التي تحملها مقولة هذا الرجل الصالح، لا تجد تحققها إلا بمن تهيأ لقبول المدد والانوار، فتلك عملية يسبقها الكثير من إعداد النفس وتوطينها على حب الصلاح، وقد عمل ذو النون على تهذيب نفسه وإبعادها عن الفساد والشهوات، فكان يرى أن الخوف من الذنوب دليلك على أنك في الطريق الصحيح، فهو يقول: «الفساد يدخل في السالك من ستة أشياء، الأول ضعف النية بعمل الآخرة، الثاني الحرص في الشهوات، الثالث طول الأمل مع قرب الأجل، الرابع اختيار رضا الخلق على رضا الخالق، الخامس متابعة الهوى والبدعة وترك السنة والشريعة، السادس أن يجعل زلات اللسان حجة له وينسى مناقبهم ويظهر الفساد بذلك بين الخلق».
المقولة تحلق بالقارئ نحو عوالم روحانية محتشدة بالجمال والحب والألق والصفاء، فهي تبشر الذين صدق إيمانهم وتوجههم نحو الله تعالى، بالخير الوفير في الدنيا والأخرة وهي دار البقاء، فالمسلم الذي يطيع ربه ويقوم بواجب عبادته وطاعته فهو بلا شك سيلقى الجزاء الأوفى، وذلك ما ظل يدعو له ذو النون ويبشر به من أجل صلاح الأمة، ولم يكن طريق هذا العابد المنقطع إلى ربه، مفروشاً بالورود، فقد لقي العنت والابتلاءات والاختبارات، وله في ذلك محكيات كثيرة، منها أنه أراد أن يمتحن جارية فامتحنته، بحسب ما رواه بأنه كان سائراً بجوار ساقية، أو نهر، يقول: «انتهيت إلى منظرة عالية هناك، فتوضأت ورجعت، فوقع نظري على المنظرة، فرأيت جارية في غاية الحسن والجمال، أردت امتحانها، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ قالت: يا ذا النون، لما رأيتك بادئ الرأي ظننتك مجنوناً، فلما صرت قُربنا ظننتك عالماً، ثم لما صرت أقرب ظننتك عارفاً، والآن تبين الحال، وانكشف الأمر فما أنت بمجنون، ولا عالم، ولا عارف. قلت: كيف هذا الشأن؟ قالت: فلو كنت مجنوناً ما توضأت، ولو كنت عالماً ما نظرت إلى غير محرمك، ولو كنت عارفاً ما نظرت إلى غير الله، وما التفتّ إلى ما سوى الحق - جل وعلا. قالت هذا الكلام، وغابت عن النظر».
وتلك القصص والحكايات لـ«ذو النون»، تشير إلى أن المسلم الصالح المحب يتعلم من كل موقف، فالزهاد لم يصلوا إلى مكانتهم تلك إلا بالتواضع والأدب الجم والأخلاق العالية الرفيعة، وكان ذلك ديدن «ذو النون»، وغيره ممن طابق مظهرهم جوهرهم، فكانوا عباد الله الذين عملوا على أن يظل نور الحق متوهجاً يهدي البشرية.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/j4mezzb2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"