مرحلة مملّة في العلاقات الدولية

00:45 صباحا
قراءة 4 دقائق

جميل مطر

كتب أحدنا مستشرفاً المرحلة القادمة في العلاقات الدولية وفي إقليمنا فقال إنها ستكون في الغالب مرحلة مملة. فاجأني ما كتبه الزميل عن الملل وقد صار صفة من صفات السياسات الخارجية والعلاقات الدولية. ففي الأسبوع نفسه علمت أن في الصين جمعيات أو بالأصح تجمعات شبابية اتخذت نظرية العلاقات الدولية موضوعاً للتسلية الراقية وقضاء فسحات وقت الفراغ بين الانشغالات الأكاديمية. ومع ذلك أتفهم صدور هذه الصفة للحال المتوقعة للعلاقات الدولية في الأسابيع القادمة، فهناك من التطورات ما يمكن أن يدفع بعض المراقبين والدارسين لتبني هذا الاعتقاد. من هذه التطورات على سبيل المثال:

 *أولاً: دخلت الولايات المتحدة بالفعل في فترة يتصف فيها أداء السلطة، والدولة عموماً، بصفة البطة العرجاء. لا أعتمد على صور أخيرة للرئيس الأمريكي وأدائه خلال إلقائه بتصريحات للصحفيين أو أثناء مقابلاته المسجلة على الهواء مباشرة لأتفق مع نظرية البطة العرجاء. الرئيس بالفعل يتحرك كرجل أكبر سناً تتباطأ خطواته وتتعثر في فمه الكلمات، وهي الصعوبات التي تضيف إضافات سلبية إلى حقيقة تاريخية تؤكد أن الرئيس الأمريكي لا يكون في العام الأخير من حكمه في المستوى اللائق أو المعتاد بسبب الحذر الشديد الذي يتوخاه تفادياً للوقوع في زلات لسان أو أخطاء تكلفه الفشل في التجديد لولاية ثانية. 

 *ثانياً: تلكأت الحرب الأوكرانية في تحقيق نتائج حاسمة. بمعنى آخر، فقدت الحرب بريقها بعد أن هدأ أوارها وانكشفت أسرارها وبخاصة أسرار نشوبها، وبعد أن خفت وميض المفارقة المثيرة التي صنفتها حرباً بين دولة عظمى ودولة صغيرة. المسؤول عن هذه المفارقة هو الإصرار الأمريكي على أن يبقى هيكل النظام الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية على حاله. كانت روسيا في ظله دولة ترفل في مزايا الدولة العظمى، ثم فقدت مع الوقت مكانتها كقطب ثانٍ ولم تفقد مكانها في مجلس الأمن وكثير غيره من مؤسسات النظام وحافظت الولايات المتحدة عليها خصماً وعدواً على مستوى لا يهدد هيمنتها بل يضيف لها. كان المتوقع، والمخطط له خلال سنوات الإعداد لهذه الحرب، أن تتغلب أوكرانيا في وقت قصير اعتماداً على دعم حلف الأطلسي..

  حدث مع هذه الحرب ما يحدث عادة مع حروب تحولت إلى روتين. صارت مملة، ولدفع الملل يشغل الناس وقتهم بالبحث في أسباب وظروف نشوبها. عدنا نسمع عن أنجيلا ميركل التي وقفت ضد حملة الولايات المتحدة ودعوتها في عام 2008 وبالتحديد في مدينة بوخارست لضم أوكرانيا للناتو وهي الحملة التي وصفتها ميركل بأنها كانت بمثابة إعلان حرب على روسيا. نسمع أيضاً أن قيادات عسكرية أمريكية حذرت في ذلك الحين من مغبة الاستمرار في سلوك هذا الطريق. تشاء الظروف أن يأتي جو بايدن رئيساً لأمريكا وهو المعروف دائماً بتعاطفه مع أوكرانيا.

 *ثالثاً: قبل أيام قليلة كان الرئيس الفرنسي ماكرون يجول الصين برفقة رئيسها داعياً إلى تعاون صيني أوروبي، بينما كانت رئيسة المفوضية الأوروبية تهدد من بكين حكومة الصين بعقوبات ومقاطعة لو ثبت أنها تدعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا. يعلن الرئيس الحالي لأوروبا والرئيسة الحالية للمفوضية موقفين متناقضين تجاه الصين. لم يكن في الأمر توزيع أدوار متعمد بل كان كما اتضح لاحقاً صورة متكررة عبر التاريخ عن أوروبا غير القابلة للوحدة، أوروبا المنقسمة دائماً على ذاتها. 

 *رابعاً: لم يكن النظام الدولي، وأقصد مجمل تفاعلات الدول وأدائها وأداء مؤسسات النظام، لم يكن في أي مرحلة على هذه الدرجة من الضعف. الدولة القائدة مشتتة الانتباه والتركيز، وهي فوق هذا تبدو للآخرين منهكة القوى. تعددت في نظر خصومها مظاهر التهديد لسلامتها، من هذه المظاهر على سبيل المثال وليس الحصر، مسيرة الدولار الراهنة ومستقبله،ومنها احتمال العودة للوقوع مرة أخرى في براثن حكم يقوده دونالد ترامب. أضف إلى هذه المظاهر حقيقة صارت ماثلة أمام معظم حكام العالم النامي وهي أن الولايات المتحدة لم تكن أمينة على مسؤولياتها تجاه شعوب هذه الدول، إذ مارست التخريب بل والتدمير بحرية. أعلم أن كثيرين من قادة العالم النامي صاروا يتذاكرون في مؤتمراتهم وقائع ومآسي تسببت فيها سياسات أمريكية منها ما تضررت منه ضرراً جسيماً دول مثل العراق وفيتنام وشيلي وفنزويلا وفلسطين.

 *خامساً: الزيادة الكبيرة في معدلات الهجرة الجماعية كعلامة من أهم علامات ضعف النظام الدولي. لا يختلف اثنان بين خبراء العلاقات الدولية على الاعتراف بأن ما نشهده هذه الأيام من زيادات مكثفة وكبيرة في عدد وأنواع الهجرات الجماعية إنما دليل واقعي على انهيار في فاعلية القوى القائدة في النظام الدولي الراهن. لا جديد هنا في نظر خبراء السياسة الدولية عن علاقات الهجرة بحال النظام الدولي السائد، معذورون إن اشتكوا من الملل.

 ولا جديد في أن صورة أمريكا اهتزت في نظر بقية دول العالم، ولا جديد في أن أوروبا على حالها لا تتغير، ولا جديد في أن اليابان تدخل الآن مرحلة ركود، ولا جديد في أن الصين صارت في حاجة إلى استثمارات أجنبية، ولا جديد في أن العلاقات بين أمريكا والصين في أسوأ حالاتها ومستمرة في التدهور سواء تولى ترامب الحكم أو استمر بايدن رئيساً، ولا جديد في أن النظام الإقليمي العربي يبدأ مرحلة اختيار بين أن يعتزل لصالح نظام أرحب في إمكاناته وتحدياته وبين أن ينتفض ويعيد ترتيب كافة أوراقه وأرصدته القومية والقُطرية على حد سواء سعياً الى بعث جديد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5bx2h29f

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"