الدولة والمعيارية الأخلاقية

00:56 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

يطرح سؤال الأخلاق على الدولة مسألة المعايير التي ينبغي اتباعها لتقييم سلوكها العام، وسؤال الأخلاق سؤال مرتبط بالدولة القديمة كما الحديثة، مع الفارق في التحوّلات الجذرية التي طالت مفهوم الدولة نفسه، وأيضاً طالت مصادر الأخلاق، وقيمة تلك المصادر، خصوصاً مع التغيرات التي طالت منظومات الإنتاج في السوق الرأسمالية، منذ القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا، وغيرت معها سلّم القيم العامة، بما فيها سلّم القيم المرتبط بالدولة.

 في علم الاجتماع السياسي، وخصوصاً في مجال الأخلاقيات، هناك فصل نظري بين مجال الأخلاق الخارجي، والمقصود به العلاقات الدولية، وبين مجال الأخلاق الداخلي، المرتبط بسلوك الدولة تجاه مواطنيها، ويعود هذا الفصل في جزء كبير منه، ولكن نسبي، إلى أن مجال العلاقات الدولية هو مجال تأكيد الدولة لمصالحها وقوّتها ونفوذها، وهو مجال متحرّك، تلعب موازين القوى فيه الدور الرئيسي، وليس القيم، من دون أن يعني ذلك الاستبعاد الكلي للقيم.

 في مجال السلوك الداخلي للدولة، يحدد تحليل هذا السلوك سلم القيم الذي تعتمده الدولة، والذي يرسم حدود علاقاتها مع الفئات الاجتماعية، أو مع الأفراد، لكن هذا التحليل يحتاج إلى زاوية نظر محددة مسبقاً، ليكون بالإمكان بناء تقييم مطابق للواقع القيمي للدولة، وتتبع وجهة النظر هذه بالضرورة لرؤية مهتمة أساساً بالمعايير الأخلاقية، فعلى سبيل المثال، لا يهتم المؤرخ بقيم الدولة في رصده لتطوّر الدولة، وجلّ ما يشغله هو رصد الحوادث التاريخية، التي لعبت دوراً في مساراتها، وهذا الموقف الذي لا يأخذ القيم بالحسبان، ينطبق أيضاً على المحلل الاجتماعي الاقتصادي، المهتم برصد الأسباب الكامنة وراء تحوّلات منظومة الإنتاج.

 تاريخياً، كان سؤال القيم سؤالاً أسسته الفلسفة، ويعد كتاب «الجمهورية» (380 قبل الميلاد) للمفكر اليوناني أفلاطون أول مرجع يعتد به في مجال فلسفة الأخلاق، ويمكن القول إن ما من تيار فلسفي إلا واشتبك مع الأفكار الإفلاطونية، أي مع الحاجة إلى وجود قيم للدولة، أو للحكم العادل؛ إذ إن أحد المبررات الرئيسية للدولة، مطلق دولة، هو أن يكون حكمها عادلاً، وأن تكون الدولة قد حددت المصادر التي تؤسس عليها عدلها، والتي تلقى القبول المجتمعي العام لها، وأن تكون المصادر موضحة في العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع.

 في التيارات الفلسفية الحديثة، لا يوجد اتفاق كلي على المنظومة الأخلاقية/ المعيارية للدولة، مع وجود نوع من الخلاف العميق والجذري على طبيعة الدولة نفسها، ففي الوقت الذي يرفعها الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل (1770-1831) إلى مصاف المطلق التاريخي، ويجعل منها قيمة تعلو القيم الأخرى، فإن مواطنه، الفيلسوف كارل ماركس (1818-1883) يرى في الدولة قوة استلاب لمصلحة الطبقة الحاكمة، وبالتالي، فإن سلّم القيم الذي تتبناه الدولة منحاز بالضرورة للطبقة الحاكمة، لكن هذا الاختلاف على قيمة الدولة ذاتها، لا ينفي؛ بل يؤكد من الناحية الواقعية أن مشروعية الدولة مرتبطة بشكل من الأشكال بمدى التزامها بسلّم قيم عامة.

 في القرن العشرين، لم يعد سؤال القيم المعيارية للدولة مرتبطاً بالفلسفة فقط، وإنما أصبح مرتبطاً أيضاً بالمجال الحقوقي القانوني؛ إذ إن التجربة البشرية قدمت شواهد ومعطيات على حدود أخلاقية للدولة، يمكن من خلالها تصنيف دولة ما بأنها أخلاقية من خلال مستويات التزامها بتلك الحدود، ويعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الوثيقة التاريخية الأشمل حول الحقوق الفردية، التي ينبغي للدول والحكومات الالتزام بها، وقد شارك في صياغة هذه الوثيقة الصادرة عن الأمم المتحدة في 10 ديسمبر/كانون الأول 1948 عدد كبير من ممثلي الدول، من خلفيات قانونية وثقافية متعددة.

 تحدد ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان القيمة الأخلاقية المعيارية التي تنبثق منها بنود الإعلان، بأنها الكرامة الإنسانية، وفي البنود الثلاثين للإعلان، يتم تحديد معايير واضحة لمفهوم الكرامة؛ بحيث يكون بالإمكان التحقق من توفرها في الممارسة الفعلية للحكومات، كما تنص المادة الأخيرة على عدم جواز الاعتداء على هذه الحقوق/ المعايير من قبل الأفراد أو الجماعات أو حتى الدولة نفسها.

 الحقوق الإنسانية المراد ضمانها للحفاظ على القيم المعيارية لأخلاقيات الدولة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مشتقة من رؤية فلسفية عقلانية ليبرالية، ما يجعل من الليبرالية بالضرورة المرجع الأهم للقيم المعيارية لأخلاقيات الدولة، المرتكزة على المواطن/ الفرد، وهو ما يتيح إمكانية مقاربة أخلاقيات الدول، من حيث مقاربة دساتيرها وقوانينها وممارسة مؤسساتها في ميزان اقترابها أو بعدها عن السياق الليبرالي العام، ومدى تأكيدها الصيغة الفردية لمواطنيها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/fx5fj9td

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"