المنظومة التركية في ميزان الانتخابات

00:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

حدث ما كان متوقّعاً في الانتخابات الرئاسية التركية؛ إذ لم يتمكن الرئيس المنتهية ولايته رجب طيب أردوغان، أو مرشح المعارضة كليشدار أوغلو، من تجاوز حاجز ال50% من الأصوات المطلوبة للفوز، ما يجعلهما يذهبان نحو جولة ثانية في 28 من الشهر الجاري، في واحدة من أهم الانتخابات التي تشهدها تركيا منذ بداية القرن الحالي؛ فالتصويت فيها لا يتعلّق بالبرنامج الانتخابي للمرشّحين، بل بقضايا أساسية تمسّ جوهر الدولة التركية نفسه؛ إذ يمثل المرشّحان هويتين متناقضتين، في رؤية ماضي تركيا من جهة، ومستقبلها من جهة ثانية.

  في تركيا، هناك مجتمعان مختلفان، الأول ما زال ميالاً للمحافظة والتقليد، ويولي ماضي الدولة التركية أهمية كبرى في تعريف الذات التركية، ورسم رؤيتها لنفسها ومحيطها، والثاني يركّز أكثر على الهوية القومية في إطار أكثر حداثة، وأكثر قرباً من أوروبا بالمعنى الهويّاتي، والاختلاف بين المجتمعين يشتمل على جملة من التباينات، ابتداءً بأنماط المعيشة والثقافة، وصولاً إلى معنى المشاركة السياسية نفسه.

   بقي مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938) الرمز الأبرز في تركيا، ومرجعيتها الأولى، ومحدداً لهويتها العلمانية، إلا أن هذه المكانة تعرّضت لمنافسة من قبل «حزب العدالة والتنمية» والرئيس أردوغان؛ إذ كان واضحاً الاستثمار في تاريخ تركيا السلطانية، وتصعيد هوية ذات صلة بتاريخ ما قبل الدولة التركية القومية، يكون فيها للعاملَين الديني والتراثي دور في تحديد ملامح الشخصية الوطنية، وتحديد ملامح السياسات الداخلية والخارجية في مواجهة طبقة راسخة من العلمانيين تستند بشكل رئيسي إلى الجيش التركي، وإلى جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك «التوسياد» ذات التوجّه الغربي، والتي تهيمن على أكثر من 50% من الناتج القومي، وتضم آلاف الشركات التي يعمل بها أكثر من 50% من أفراد القوى العاملة.

   نبت حزب «العدالة والتنمية» في بيئة العمل السياسي الإسلامي، فقد أسّسه نواب منشقون عن حزب «الفضيلة الإسلامي» الذي تم حلّه بقرار من محكمة الدستور في يونيو/حزيران 2001، وقد خطّ الحزب لنفسه هوية واضحة من حيث محافظتها الاجتماعية، وتبني «العثمانية الجديدة»، وتمكّن هذا الخط من استقطاب جمهور واسع من أبناء الطبقات الفقيرة في المدن غير الصناعية، إضافة إلى جزء مهم من الطبقة المدنية المحافظة، التي لم تتمكّن من الانخراط في الثقافة الحديثة، أو لم تجد لها موطئ قدم في منظومة المصالح القائمة.

  منح «العدالة والتنمية» قطاعات مهمّشة من الأتراك وعداً بأن يكون لهم مكانتهم الاقتصادية والاجتماعية، وأن يخرجوا من حالة التهميش السابقة، لكن ليس من خلال خط إيديولوجي اشتراكي، وهو خطّ موجود في تركيا، تتبناه أحزاب عدة، لكن من خلال طرح منظومة قيم تقليدية، تجمع بين مصادر دينية وتراثية محافظة، وهذا الخط/ الخطاب أكثر فهماً وقبولاً لدى هذه الفئات، وفيه مستوى من الشعبوية المطلوبة لدفع الفئات التقليدية للانخراط في العمل السياسي، وانتخاب ممثليها.

  في مجتمع يزاوج بين الحداثة والتقليد، وله ماضٍ إمبراطوري، اشتغلت دعاية «العدالة والتنمية» على صناعة صورة القائد، بوصفها صورة محفورة في ذهن الشخصية والأمة، عبر قرون من الخلافة العثمانية، وقد نجحت هذه الدعاية إلى حدّ كبير في تحقيق أهدافها، لكنها بقيت محصورة ومؤثرة في البيئات التي تستهدفها، وفي المقابل، دفعت الفئات الحداثية والقومية إلى المزيد من التماسك، وهو ما ظهر من خلال اصطفاف عدد من الأحزاب والقادة السياسيين البارزين وراء كليشدار أوغلو، وتجاوز الخلافات فيما بينهم، ليس بهدف طي «صفحة العدالة والتنمية» فقط، بل لطي جملة من السياسات، التي يرون أنها كانت مكلفة لهم، وللاقتصاد التركي، ومضرّة بتحالفات تركيا مع الغرب.

  الانقسام التركي، يتضح أيضاً في نتائج البرلمان التركي؛ إذ تراجع عدد نواب «العدالة والتنمية»، وفقدوا الأغلبية المطلقة، التي لم يتمكن من الحصول عليها أي حزب، ما يضع البرلمان الجديد أمام وضع معقد، قد يدفع به إلى انتخابات مبكرة، لكن المعضلة التركية تتجاوز في أبعادها ميزان القوى الانتخابي، فهي تفصح أكثر وأكثر عن أزمة في الإجابة عن سؤال الهوية. فشلت القوى المعبّرة عن الحداثة في ترسيخ مكونات ثقافية لعموم الأتراك، كما فشلت القوى المحافظة في استعادة مكونات الماضي وتعميمها، فقطبا المنظومة ما زالا يعملان كضدين، يحاول كل منهما أن يمتلك كامل المنظومة، وأن يطبعها بثقافته ومصالحه، ومهما كان المرشح الفائز بالرئاسة في جولة الإعادة، فإن المنظومة بأكملها أصبحت أمام أسئلة وجودية صعبة في المناحي كافة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/sxbna8h7

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"