إشكاليات الهوية في العصر الشبكي

01:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

في دول عديدة، لم يعد مفهوم الالتزام الوطني محطّ اتفاق بين المواطنين، ولم يعد التطوّع أو الالتحاق بالجيش مسألة تثير الفخر العام، ففي أوكرانيا وروسيا، اللتين دخلتا في حرب في فبراير/ شباط من العام الماضي، فرّ مئات الآلاف من الشباب خارج الحدود، هرباً من خوض القتال على الجبهات، ودفع ثمن شبه محتوم، وهو حياتهم، مقابل حالة عدم يقين بضرورة الحرب نفسها، كما تقدّم الكثير من الحكومات، كما حدث مؤخراً في ألمانيا، العديد من الإغراءات المالية والمعنوية، لحثّ الشباب على التطوّع في الجيش، خصوصاً بين أبناء الجيل الجديد من اللاجئين.

 تعريف العصر الذي نعيشه بأنه العصر الشبكي، هو مقاربة ذات صلة بثورتي التقانة والاتصالات، اللتين أثّرتا في البنى التقليدية، وأدخلتا الأفراد والمجتمعات في علاقات أفقية، من خلال شبكة الإنترنت، والكمّ الهائل من منصات التواصل الاجتماعي، التي قدّمت للمرة الأولى في تاريخ البشرية فرصة المساواة على الشبكة، وألغت التراتبيات الراسخة في أعراف المجتمعات، وفسحت في المجال لبناء علاقات مباشرة، بين أفراد لا تجمعهم روابط أسرية أو مهنية أو وطنية، ومن دون وجود اشتراطات مسبقة تعيق عمليات التواصل.

 وإذا كانت الثورة الصناعية الأولى، ورمزها الأبرز «الآلة البخارية» قد «اغتالت المسافات» بحسب توصيف الشاعر الألماني هاينرش هاينه (1797-1856)، فإن الثورة الصناعية الرابعة، أي ثورة المعلومات، فقد محت الكثير من الحدود أمام انتقال المعارف، وجعلتها متاحة على نطاق غير مسبوق تاريخياً، لكنها أيضاً، وضعت الفرد للمرة الأولى أمام مسائل وأسئلة جديدة، كانت في عصور سابقة، واضحة إلى حدّ كبير، ولها إجابات يقينية، من مثل مسألة الهوية وأسئلتها الشائكة.

 مفهوم الإشكالية مرتبط بوجود حالات التباس أو غموض في مسألة ما، تمتدّ لتصل إلى حالة عدم اليقين، وكذلك يطرح مفهوم الإشكالية مجموع الأسئلة الواقعية والافتراضية التي تواجه مسألة ما في فرع من فروع المعرفة، ومن بين المسائل الاجتماعية الأكثر إثارة للجدل في العصر الشبكي مسألة الهوية، مع الكمّ الكبير من الخصائص المتعلقة بكل مجتمع على حدة، فعلى الرغم من التعميم الذي أحدثته العولمة المعلوماتية، إلا أن الفوارق الهائلة في التركيبات الاجتماعية، ما زالت تمنح خصائصها وحساسياتها الاجتماعية المحلية دوراً كبيراً في مسار الجدل المثار حول الهوية.

 في صميم التحوّلات الكبرى التي أحدثها العصر الشبكي، يمتلك مفهوم الفضاء/ الحيّز أهمية خاصة ومركزية، فقد كانت المجتمعات تجيب عن أسئلة الهويّة، وترسم حدودها، في الفضاء الوطني/ القومي في المقام الأول، لكن مفهوم الفضاء نفسه، طرأت عليه تغيّرات ملحوطة ومؤثرة في صياغة أسئلة الهوية أولاً، وفي تقديم الإجابات المتنوعة ثانياً، فإذا كان من البدهي أن كلّ هوية، هي بشكل من الأشكال حدّ فاصل بين الذات والآخر، إلا أن هذا الحدّ الفاصل هو تماماً ما قامت عناصر ومعطيات العصر الشبكي بالتأثير فيه، وأثارت الحاجة إلى إعادة تعريف الحدود المميّزة للهوية، أي إلى إعادة تعريف الهوية ذاتها.

 قد يكون هذا المسار الذي يدفع نحو تعريف المجتمعات لذاتها من جديد في بداياته، لكن ما هو واضح حتى الآن أنه يخلخل التعريفات السابقة، أو أقله يضعها أمام تحدّيات جديدة، وأيضاً أمام احتمالات في حدوث اضطرابات من نوع جديد، فالمنظومات عموماً، والهوياتية خصوصاً، تتمتع بقدر من الصلابة أمام محاولات التغيير، والقديم منها سيدافع عن نفسه طويلاً، قبل أن يخلي مكانه للمنظومات الجديدة، من دون أن يعني ذلك تبلور منظومات هوياتية جديدة واضحة، بل مؤشرات عامة، يمكن القول إنها سمات للمنظومات الهوياتية الجديدة.

 المؤشر/ السمة الأكثر بروزاً في تشكيل الهويات في العصر الشبكي هي الميل إلى الليبرالية، لكن هذه المرة في إطار ما فوق قومي، إذ إن هذا الميل ليس مرتبطاً بمجتمعات تعيش في ظل دول وحكومات ليبرالية سياسياً واقتصادياً وحقوقياً، بل بليبرالية الفضاء الشبكي نفسه، وهي ليبرالية لم تأخذ حقها الذي تستحقه بعد من التحليل والبحث، لكنها موجودة بقوة الواقع الجديد لعصر الثورة الصناعية الرابعة، ولم يعد بالإمكان محاصرتها، أو الحدّ كثيراً من تأثيراتها في الأفراد مختلفي الجنسيات والثقافات.

 وإذا كانت السمة الأولى بنيوية الطابع، فإن السمة الثانية وظيفية، تتعلق باستخدام ممكنات الشبكة نفسها في إحداث تأثيرات معينة، في إطار ما يمكن تسميته «صناعة الهويّات»، التي تأخذ شكل الحروب، تخوضها حكومات ودول ومؤسسات كبرى، في إطار التأثير في مواطنيها، أو مواطني الدول الأخرى، عبر بناء ميول أيديولوجية تخدم مصالحها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5yxbj8v2

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"