حسام ميرو
بشكل خجول نسبياً، بدأ مصطلح المجتمع المدني، يدخل الحيّز العربي العام، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، في لحظة تاريخية فارقة لها الكثير من الدلالات، تمثّلت في نهاية الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفييتي، وصعود العولمة مدفوعة بالثورة الصناعية الرابعة، ثورة التقانة والاتصالات، وذلك الدخول للمصطلح جاء مع تحوّلات في اليسار العربي، الذي تبنى عدداً لا بأس به من مناضليه السابقين فهماً جديداً للعمل من أجل التغيير المجتمعي والسياسي، قوامه منظمات المجتمع المدني، بديلاً عن الأحزاب السياسية، وما تشترطه من إديولوجيا، وآليات تنظيمية صارمة.
كان اليسار العربي عموماً، في محنة كبرى، فقد سقط ظهيره الدولي (الاتحاد السوفييتي)، وبدت كل تضحيات هذا اليسار فجأة، أنها قد ذهبت سدى، بما فيها سنوات الاعتقال التي قضاها عشرات الآلاف من المناضلين الحزبيين في السجون، دفاعاً عن أفكار العدالة والاشتراكية ،وقد وجدوا ضالتهم في «المجتمع المدني»، والعمل من أجل توسيع هوامش الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وقد تأسست لأجل هذا الهدف بضع جمعيات، راحت مع الوقت تتكاثر، وتتحوّل في صيغها ووعيها وعلاقاتها، على مدار العقود الثلاثة الماضية.
إذن، أولى أزمات المجتمع المدني العربي، ولدت فعلياً من كونه جاء كردّ فعل على انتكاسات الحركة السياسية عموماً، واليسارية خصوصاً، وثانية تلك الأزمات تمثّلت في اعتبار أن هذا الشكل النضالي الجديد، أي منظمات المجتمع المدني، أكثر مطابقة للواقع الاجتماعي والسياسي العربي، وبالتالي، فإن نتائجه ستكون أفضل، نظراً لانطوائه على مميزة افتراضية، وهي الجاذبية، بسبب عدم وجود إيديولوجيا صارمة، لها اشتراطاتها، وبالتالي، فإنه سيشكّل تجربة أكثر جاذبية لجيل الشباب من البنى الحزبية القديمة.
في واقع الأمر، هذه الولادة المبنية على ردّ فعل على فشل العمل الحزبي/ السياسي، لم ترسم إطارها الأولي فقط، بل حدّدت مسارها اللاحق أيضاً بشكل واسع، بوصفها بديلة عن العمل السياسي، قبل أن تنظر إلى المجتمع ذاته، الذي ما زالت الكثير من آلياته محكومة وتابعة لترسيمات المجتمع الأهلي، ما قبل السياسي، تلك الترسيمات التي ستظهر مدى حضورها في البلدان التي عاشت اضطرابات التغيير في العقد الماضي، من خلال صعود الهويّات الفرعية/ الأهلية، ما دون الوطنية، الدينية، والمذهبية، والمناطقية، والعرقية، وغيرها.
استراتيجية قسم لا بأس به من الأنظمة السياسية العربية، كانت احتواء هذه الظاهرة الجديدة، ومنحها بعض الهوامش للعمل، مع رسم خطوط حمراء لا ينبغي للعمل المدني تجاوزها، بحيث يتمّ التنفيس عن بعض احتقانات الشأن العام، وإظهار حالة انفتاح على نخبة جديدة، تمثلها شخصيات أكاديمية وكفاءات ووجوه اجتماعية مرموقة، ما يوحي بوجود ملامح للحياة الديمقراطية، تستفيد منها الأنظمة والحكومات لإظهار وجه حديث وحداثي، وقابلية للانفتاح على الآخر المختلف، في إطار الاتفاق على عدم تجاوز المبادئ الوطنية الأساسية.
والديناميات المحلية، بما فيها معاندة الأنظمة السياسية لحدوث تغييرات بنيوية عميقة، وتأخر البنى الاجتماعية، خصوصاً في رسوخ الجانب المحافظ فيها، وغياب اقتصاد رأسمالي حر، كل ذلك، لم يسمح بحدوث تقدّم وتوسّع في حركة المجتمع المدني، وهو أمر يبدو طبيعياً، بالنظر إلى القياس التاريخي، فالمجتمع المدني الغربي هو الابن الطبيعي للرأسمالية الصناعية من جهة، والسياق التنويري من جهة ثانية، بينما لا تزال معظم الدول العربية تعيش حالة هجينة في الاقتصاد، مع مستويات تدخّل وتوجيه كبيرة من قبل الحكومات بآليات عمل السوق.
وفي عدد من البلدان العربية التي وقعت في حالة حروب وصراعات عسكرية داخلية، ونشوء سلطات أمر واقع عدة، وتدخلات إقليمية ودولية، تأسّست الآلاف من منظمات المجتمع المدني، المدعومة من قبل مؤسسات الأمم المتحدة، أو مؤسسات غربية، أمريكية وأوروبية، ما جعلها تتحوّل إلى أذرع محلية لتلك المؤسسات.
تحويل العمل المدني في العالم العربي إلى عمل بيروقراطي، هو السمة الأبرز والأزمة الأكبر في العقد الماضي، خصوصاً المنظمات المدعومة غربياً، ما جعل من الكفاءات المنخرطة في هذا المجال، معنية بوجودها، وتحسين شروطها، أكثر مما هي معنية بتحقيق الأهداف المعلنة في برامجها، وضمن هذا السياق، أصبحت معنية بالحصول على رضا المؤسسات الغربية الداعمة، أكثر من حصولها على رضا الفئات الاجتماعية التي تزعم أنها تقوم بتمثيل مصالحها.