إشكاليات النخب ومشكلاتها

00:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

إذا أقررنا بأن مسار الدولة عموماً، والدولة الحديثة خصوصاً، هو مسار متعلّق بالنخب بشكل أساسي، فإن مفهوم النخبة بحدّ ذاته، تعرّض لتبدلات عدة، فرضها مسار التاريخ في المئة عام الأخيرة، وتحديداً، مع تداعي آخر محطات العالم الإمبراطوري القديم، وظهور الإمبراطورية الأمريكية، كقوّة صاعدة، فرضت آليات جديدة على العالم، وعلى المفاهيم السياسية، وفي مقدمة تلك المفاهيم، يحتّل مفهوم النخبة مكانة متميزة، إذ إن محاولة تحديد الفئة التي تتكوّن منها النخبة، ومستوى تكوينها، والأسئلة التي تطرحها على نفسها وجمهورها، أصبحت مرتبطة بوعي جديد ومختلف للعالم نفسه، ليس هذا الوعي بالضرورة واضحاً كلياً في رؤيته للمشكلات، لكن أهميته أنه جدلي ومتفاعل أكثر من ذي قبل، أي أنه أكثر استجابة للسرعة المتزايدة في الأحداث.

عربياً، ومنذ سبعينات القرن الماضي، حدثت عمليات تشريح لواقع النخب العربية، بعد هزيمة عام 1967، في محاولة لفهم أسباب الهزيمة من جهة، ولفهم دور النخب في تلك الهزيمة من جهة ثانية، وتحديداً النخب الحاكمة. وذهبت بعض المقاربات، المستندة إلى قراءة مقارنة، إلى تحليل واقع النخب الحاكمة بالمقارنة مع واقع النخب في دول أكثر «تقدماً» تاريخياً، من وجهة نظر المفكرين الذين قاموا بعملية المقاربة والمقارنة، وعلى الرغم من أن استخدام منهج التحليل المقارن يمتلك مشروعيته من ضرورة وعي الذات ورؤيتها في مرآة الآخر، وما يمكن أن تتيحه عملية المقارنة من كشف التباينات الجوهرية بين فئتين تتمّ المقارنة بينهما، إلا أن العيب الرئيسي يكمن في سهولة القفز على العوامل الموضوعية، أي الشرط التاريخي لنشوء النخب على الضفتين.

سنكتشف بعد أقل من ثلاثة عقود على التحليلات المقارنة لواقع النخب العربية، أن بعض أهم التجارب النخبوية التي تمّت المقارنة معها، والمقصود هنا، النخب في الاتحاد السوفييتي، ودول المنظومة الشرقية، قد غابت عن الوجود، بعد أن تداعت كلياً، ما يجعل من التجارب المقارنة نفسها محل سؤال وتشكيك، من حيث افتراضها وجود إشكاليات متطابقة، تجعل من المقارنة مشروعة، فأرضية أي مقارنة بين النخب في تجارب مختلفة، تنطلق من وجود مستوى مقبول من التطابق في أسئلة النخب التي تتناولها أية مقارنة، ومن دون وجود ذلك المستوى المعقول من المطابقة، فإننا نكون أمام احتمالات عدة، من بينها عدم إدراك طبيعة المنهج التحليلي المقارن نفسه.

وبناء الإشكاليات، أو ما يسمى السؤال الأساس، لدى النخبة، مطلق نخبة، يتأسّس بناء على وعي مطابق للمشكلات الواقعية، لكن هذه القاعدة، شديدة الوضوح ظاهرياً، تصبح، وبعد محاولة الأخذ بها، والعمل وفقها، وبعد أول خطوة، مسألة شديدة التعقيد، وخاضعة لشروط عدة، من أهمها المرجعية الأيديولوجية للنخبة، فهذه المرجعية تتحكّم إلى حدّ كبير في تحديد ما هي أولوية/ واقعية، وقد لا تكون هذه الأولوية، سوى انعكاس لثقافة، هي نفسها، أصبحت مضادة لحركة الواقع والتاريخ، أي أنها وقعت في أسر سلفية ما، وغير قادرة على الخروج منها وتجاوزها.

انسداد الأفق التاريخي لمجتمع ما، أو تدهور أحوال الدول، والتراجع الكمّي والنوعي للاقتصاد، وانخفاض مستويات المعيشة، وغيرها من المشكلات المشابهة، تتحمّل النخب المسؤولية الأكبر فيها، بل إن قراءة مشكلات مجتمع ما، وأحوال دولته، من شأنها أن تمنحنا فكرة واضحة إلى حدّ كبير عن النخب الموجودة في هذا المجتمع، والإشكاليات التي تأسّس عليها عملها، وطريقة الإجابة عنها، إذ إن حركة المجتمع في مستوياتها المختلفة، تعبّر عن الآليات التي تدير بها النخب المصالح، العامة والخاصة، على حدّ سواء، وهذه الآليات، بكل تعقيداتها، هي الأساس الذي تنبغي مقاربته لفهم أزمات المجتمعات والدول.

العلاقة الجدلية بين مشكلات الواقع، ومن ضمنها مشكلات النخب، وبين إشكاليات النخب، ليست علاقة خطية، أي أنه لا يمكن فهمها كعمليات انعكاسية مباشرة بين الطرفين، المشكلة والإشكالية، بل بوصفها خاضعة لفضاء منظوماتي أشمل، لا تلعب فيه معادلة السبب والنتيجة إلا دوراً محدداً، ومحدوداً في بعض الأحيان، في فهم آليات عمل المنظومة، خصوصاً مع تداخل عدد كبير من العوامل التاريخية في بناء العلاقات بين أعضاء المنظومة نفسها.

هذه العلاقة الجدلية، تشهد انتكاسات كبيرة في غير مكان في العالم، من بينها مجتمعات ودول في عالمنا العربي، تدهورت أوضاعها الوطنية العامّة، حتى يكاد يبدو، في مستوى من المستويات، أن النخب ليس لديها أسئلة من النوع الذي يمنحها صفة النخبة، ولا تمتلك تصوّراً معقولاً عن ذاتها، أو المشكلات التي يفترض أن تعمل على حلّها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bddwrmzx

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"