القوة بين التقليدية والحداثة

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناجي صادق شراب

القوة ليست من المفاهيم الجامدة الثابتة في مضمونها وماهيتها، بل هي من المفاهيم المتحولة والمرتبطة بالتطورات في العلاقات الدولية والتطورات التكنولوجية والمفهوم الشامل للقوة. وإذا كانت القوة تعني القدرة على التاثير في سلوك الآخرين تحقيقاً لمصلحة من يملك القوة، إلا أنها اليوم باتت مفهوماً معقداً متشابكاً، ويتسم بالتكامل وعدم التفرد. والقوة بمفهومها الشامل هي المحدد للعلاقات الدولية والتطورات التي تلحق بطبيعة النظام الدولي، وبالتحولات في تصنيف الدول على سلم القوة، لدرجة لم يعد التقسيم التقليدي للقوة صالحاً اليوم لتفسير دور ومكانة الدول. فلم تعد الدول العظمى واقعاً ثابتاً، وفي المقابل لم تعد الدول الصغيرة تابعة وهامشية في دورها، فاليوم تلعب هذه الدول دوراً أكبر، وأكثر تأثيراً، حتى في سياسات الدول الكبرى، بما تملكه من القوة في مضمونها الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي.

والقوة بكل أشكالها هي من تفرض وتفسر لنا التحولات الدولية، صعوداً وهبوطاً، وتفسر لنا سياسات وقرارات وأفعال الدول والتحولات التي لحقت ببنية النظام الدولي من الإمبراطورية إلى الدولة القومية، والقطبية الأحادية والصراع على التعددية القطبية.

لقد ظهرت الكثير من المدارس والنظريات التي تفسر لنا القوة وتطورها ومحدداتها ومكوناتها، وعلاقاتها بحالة الصراع والحرب التي نشهدها، فما كان لحرب أن تقوم لولا عنصر القوة العسكرية التي تملكها الدول. ولذلك اقترنت الحروب بدول القوة التي تعتمد على القوة العسكرية، ولنا في الحرب الأوكرانية نموذجاً واضحاً للقوة بمعناها التقليدي الواقعي. و بين هذه المؤلفات كتاب«نظريات القوة» لفابريس ارجونيس، الأستاذ في جامعة رون الفرنسية والذي يؤكد فيه أهمية القوة كأحد أهم العناصر في تحديد خيارات الفواعل الدولية. فالقوة تجيب عن سؤال: لماذا الحرب ولماذا القبول بالمفاوضات والتسويات والسلام؟

لا يكفي اليوم التعرف إلى مؤشرات القوة فقط من خلال الناتج المحلي والنفقات والموازنات العسكرية، وكما أشار جوزيف ناي في كتابه «القوة الناعمة» فالدول الصغيرة لم تعد كذلك بامتلاكها للقوة الناعمة التي لم تعد حكراً على الدول الكبرى. فاليوم الدول الصغيرة القادرة اقتصادياً تملك القدرة على الإنفاق العسكري، والإنفاق على إنشاء بنية تحتية قوية تضعها في مصاف الدول الأكثر قوة وتأثيراً وفعالية في قراراها، والقرار الإقليمي والدولي.

ومع التطور الرقمي والتكنولوجي لم يعد مفهوم المدرسة الواقعية التقليدية مناسباً لفهم القوة، بمعنى قدرة دولة ما على التأثير في سلم الدول الأخرى بما يتفق ومصالحها. وقد كانت القوة الصلبة بشقيها العسكري والاقتصادي من المحددات الأساسية في تفسير وتعريف القوة. واليوم ومع التطورات التكنولوجية بدأنا نسمع عن القوة الذكية والقوة السيبرانية، وغيرهما من أشكال الحداثة في القوة.

ويشير الكاتب رون هابرد، إلى محددات القوة التي يحددها أولاً، بعنصر الأرض بمعناها الواسع والشامل، بما تضمنه من المساحة والقدرات والموارد الطبيعية والخصائص الجيوسياسية ومدى قدرة الدولة على حماية حدودها وتوفير الأمن الداخلي، وسيطرتها على مواردها. ولا شك في أن موقع الدولة يحدد إلى حد كبير مدى استقلالية الدولة وتبعيتها، ويشير إلى أن الدول التي تقع على محيطات كبيرة تتمتع بقدرة أكبر على الاستقلالية والحماية عكس الدول التي تشاركها دول قوية في حدودها وإقليمها، وهذا قد ينعكس على دور الدولة وتبعيتها واستقلاليتها ويفسر لنا زيادة التنافس العسكري. أما العنصر الثاني المحدد للقوة فهو السكان، وما يحمله من العدد والخصائص السكانية والعمرية، ونسبة الشباب، والتماسك الاجتماعي والثقافي والهوية والانتماء. والمحدد الثالث، كيف ترى الدولة نفسها ودورها ومكانتها، الإقليمية والدولية، وماذا تريد، وهذا يُترجم بأهداف الدولة القومية العليا، ويفسر نزعة القوة والسلام لديها.

في هذا السياق، نحن أمام مفهوم جديد للقوة تغلب عليه الخصائص الحداثية، وهذا التحول يفسر لنا حالة اللانظام الآن، والتنافس بين الولايات المتحدة الساعية للحفاظ على تركيبة القوة القائمة، والصين التي تسعى لتغيير بنية النظام الدولي نحو نظام تعددي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bddt6s9y

عن الكاتب

أكاديمى وباحث فلسطيني في العلوم السياسية متحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومتخصص في الشأن السياسى الفلسطيني والخليجي و"الإسرائيلي". وفي رصيده عدد من المؤلفات السياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"