معادن أوروبا الحيوية

21:57 مساء
قراءة 3 دقائق

فيرنر هوير *

لعبت المواد الخام، على مدار التاريخ، ولا تزال، دوراً رئيسياً في التنمية الاقتصادية والعلاقات الدولية ومصائر الأمم والحضارات بأكملها، من المعادن الثمينة، كالفضة والذهب، إلى السلع الزراعية، كالسكر والمطاط والحرير والتوابل، مروراً بموارد الطاقة الحيوية على غرار النفط والغاز. وأدت تحولات الطلب الناجمة عن التطورات التكنولوجية إلى إعادة كتابة أنماط التجارة العالمية، وتعديل مفهوم الثروات، ما أجج في الأغلب الصراعات، وأشاع الاستغلال بين الجهات المستفيدة.

اليوم، يزداد الاعتماد على مجموعة جديدة من المواد الخام الحيوية، بما في ذلك العناصر الأرضية النادرة والمعادن، مثل الليثيوم والجاليوم والجرمانيوم. وأصبح استخدام هذه السلع أمراً ضرورياً في كل شيء تقريباً وحتمياً للتحولات الخضراء والرقمية التي سترسم مستقبلنا على هذا الكوكب، بدءاً من الألواح الشمسية والبطاريات ومزارع الرياح، وصولاً إلى رقائق الكمبيوتر والصناعات الدفاعية، وغيرها الكثير.

وبالحديث عن الطلب، من الواضح أن أوروبا لن تتمكن أبداً من تلبية احتياجاتها للعناصر الأرضية النادرة، أو الليثيوم، محلياً، لذا، عليها أن تضمن قدرتها على الوصول إلى المواد الخام بالغة الأهمية حتى لا تجد نفسها تحت رحمة من قد يستخدمونها كسلاح، كما فعل الكرملين حين قطع إمداد الهيدروكربونات عن القارة العجوز، قبل أكثر من عام. ويعد هذا الوصول لتلك العناصر مفصلياً لتعزيز الاستقلال الاستراتيجي، والحفاظ على القدرة التنافسية، وتلبية الطموحات المناخية.

ولتحقيق هذا الهدف، يتعين علينا تجنب أخطاء الماضي، وفي مقدمتها الاعتماد المفرط على مصدر توريد واحد. وقد أدت الأحداث الأخيرة، مثل جائحة فيروس كورونا، والحرب الأوكرانية، إلى تعظيم دور سلاسل التوريد الآمنة في جميع القطاعات الاقتصادية عالمياً، وسلطت الضوء على التأثير الكبير الذي تتمتع به أكبر الاقتصادات الناشئة في العالم، بما في ذلك مجموعة البريكس، التي تسيطر على العديد من سلاسل التوريد العالمية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالمواد الخام الحيوية.

ومع سعينا المتواصل لإزالة الكربون واعتماد الكهرباء النظيفة، تزداد أهمية المعادن الأرضية النادرة أكثر من أي وقت مضى. ومن المتوقع أن يزداد الطلب العالمي عليها خمسة أضعاف بحلول عام 2030. ولكن على جانب العرض، هناك دولة واحدة تهيمن على السوق حالياً، وهي الصين، التي تعالج نحو 90% من العناصر الأرضية النادرة، و60% من الليثيوم عالمياً. وعلى هذا النحو، فإن الاتحاد الأوروبي يعتمد على الصين في توريد جميع العناصر الأرضية النادرة تقريباً.

وبما أن أوروبا تعي تماماً الخطورة التي قد تنضوي تحت هكذا تبعيات، فعليها أن تعمل على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها، والتخلص من المخاطر والفرضيات. ولكن حل المشكلة ليس بهذه البساطة، ولن يكون للاستثمار في التعدين الأوروبي وحده أي معنى، من الناحية الاقتصادية، إذا لم يتم التنسيق مع شركاء بظروف متشابهة في جميع أنحاء العالم للمساعدة في رفع مستوى القدرات في تقنيات الاستخراج والمعالجة.

وأيضاً، لا يزال يتعين على دول القارة النظر في بعض القرارات الصعبة والعالقة فيما بينها بخصوص مشاريع التعدين الضخمة والمستدامة، وأن تستثمر أكثر في مصافي التكرير ومصانع المعالجة الخاصة بها لتحقيق اقتصاد دائري خال من الكربون.

لقد أظهرت مبادرات سابقة، مثل تحالف البطاريات لعام 2017، أنه يمكننا النجاح عندما نجتمع معاً. فأوروبا الآن موطن لواحد من أكبر مصانع البطاريات العملاقة، وأكثرها تقدماً في العالم، شركة «نورثفولت» السويدية، التي تعتزم إنتاج ثلثي بطاريات السيارات الكهربائية التي تحتاجها القارة، بتمويل من بنك الاستثمار الأوروبي.

ولتكرار قصة النجاح هذه، يتعين علينا أن نتجنب النظر إلى التحدي المتمثل في المواد الخام بمعزل عن غيره من التحديات. فلا بد من دمج كل المبادرات المتعلقة بضمان الإمدادات الآمنة ضمن سياسة شاملة، كما فعلنا في قضايا مكافحة تغيّر المناخ. وإضافة إلى ذلك، يجب أن تستهدف السياسة الخارجية الأوروبية تطوير وتعميق الشراكات الاستراتيجية ذات الصلة، وتعزيز الاستثمارات في أوروبا والبلدان الشريكة.

ويجب أن تبذل أوروبا المزيد من الجهود لحماية الوصول الآمن إلى الإمدادات الحيوية، على غرار مشاركة بنك الاستثمار الأوروبي، الذي قدّم بالفعل 3 مليارات يورو لدعم سلاسل توريد المواد الخام، على مدى السنوات السبع الماضية، لضمان قدرتها على تحقيق هذه الأهداف. ولكننا في المقابل ندرك أن أدوات أوروبا الحالية غير كافية، ونحن نشجع الآخرين على التحرك، بدءاً من الإجراءات التنظيمية، وصولاً إلى مشاريع محددة وملموسة.

ولطالما كان الوصول إلى المواد الخام الحيوية عاملاً محدداً للثروة الاقتصادية والتنمية على مر التاريخ، ولتأمين مستقبل أفضل ومستقل، علينا أن نغتنم زمام المبادرة ونجعل حماية الوصول إلى السلع الحيوية الجديدة لهذا القرن أولوية قصوى.

* رئيس بنك الاستثمار الأوروبي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/47v3pt3s

عن الكاتب

رئيس بنك الاستثمار الأوروبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"