في الاستراتيجيات وموازين القوى

00:47 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

من البدهي أن تبنى الاستراتيجية، أي استراتيجية، على وعي الأطراف بطبيعة موازين القوى القائمة في اللحظة الراهنة، لكن هذه البدهية الواضحة في أذهان صنّاع القرار تتضمن عناصر شديدة التباين، وأحياناً شديدة التناقض، ما يجعل من هذه البدهية شديدة التركيب والتعقيد في آن، فمنطق الاستراتيجية متعلق بالمديين المتوسط والبعيد، بينما تتأسّس معطيات اللحظة الراهنة على ما تم إنجازه في الماضي، ما يجعل الربط بين المنطقين علاقة فيها الكثير من العناصر الغامضة؛ إذ مهما تمّت الإحاطة بالعلاقات التي تقوم بين ما هو كائن وبين ما سيكون، فإنها تبقى إحاطة ناقصة.

السؤال الأساس في الفكر الاستراتيجي مرتبط بمقدار الإمكانات الموجودة، وهذه الإمكانات هي مصطلح يكثّف عدداً من التقديرات الكمية والنوعية، والتي ينبغي أن يقوم بها خبراء مختصون في المجالات المعنية، لذلك، شهدت الدراسات المتعلقة بالاستراتيجيات تطورات عديدة، بقيت جميعها أمينة إلى حد كبير لبعض المفاهيم التي أسس لها المؤلف الصيني سون تزو، في كتابه «فن الحرب»، في القرن السادس قبل الميلاد؛ حيث ربط بشكل قاطع بين الاستراتيجيات والموارد، معتبراً أن الموارد المادية والبشرية الكفؤة هي أساس بناء الخطط العسكرية.

أتى العصر الرأسمالي، منذ الثورة الصناعية الأولى، في منتصف القرن الثامن عشر، بمتغيرات عديدة، أثّرت بشكل جذري وحاسم في العلاقة بين الاستراتيجيات وموازين القوى، فقد ربطت التطوّرات الصناعية بين الدول وسوق العمل، المحدّد بمعادلة الموارد والتسويق، وأصبحت مكانة الدول محددة بمدى وجودها وتأثيرها في سوق العمل، ما جعل الصراع الأساسي بين الدول والأمم صراعاً على حيازة أكبر مساحة من سوق العمل، أي وضع اليد على أكبر قدر من الموارد المهمة، والوصول بحرية إلى الأسواق.

لم يكن الربط بين الاستراتيجيات وموازين القوى من خلال سوق العمل هو المتغيّر الوحيد، وإن كان الأبرز، الذي أحدثته الثورات الصناعية الأربع، وإنما أيضاً حدثت تطوّرات بالغة الأهمية حول مفهوم القوة ذاته، فقد تنامى، خصوصاً في القرن الأخير، دور القوة الناعمة، التي أصبحت أساسية في بناء أية استراتيجية، وهو ما يفسر محاولات الهيمنة من قبل الدول والشركات والاتجاهات السياسية على الفضاءات الإعلامية، والتي أصبحت منصاتها جزءاً مهماً من سوق العمل، وقوة يعتد بفاعليتها بين الأطراف المتصارعة في هذه السوق.

إن الديناميات التي تربط الاستراتيجيات وموازين القوى في سوق العمل، لها جانب إيجابي عام، يخدم بالدرجة الأولى القوى الكبرى في سوق العمل الدولي، يتعلق بمحاولة منع الحروب من التوسّع، وجعلها محدودة ما أمكن، لمنع تأثيراتها السلبية في العمليات التبادلية في سوق العمل، وعدم عرقلة سلاسل الإمداد، بما يتيح للعوائد المالية بالتدفق، لكن هذا التوجه الاستراتيجي له أكثر من وجه، فقد يتم دفع بعض الأطراف إلى الحروب، لاستنزاف مواردها من جهة، ومنعها من تطوير آليات انخراط فعّالة في سوق العمل.

من الطبيعي بمكان، بالقياس إلى الصراع الشرس بين الدول الكبرى المهيمنة على سوق العمل، أن تلجأ كل واحدة من هذه القوى إلى عرقة مشاريع الخصم، بكل الطرق الممكنة، وتصبح هذه العرقلة جزءاً صميماً من الاستراتيجية المتبعة، وأيضاً تجنّب المواجهة المباشرة المضرّة بالأسواق العالمية، وهو ما يفسر اللجوء إلى تصريف فائض القوة في ساحات بعيدة وهامشية في سوق العمل.

وإذا كانت معادلات السوق العالمية هي القانون الأعلى الحاكم والمتحكم بجميع الدول، فإن الدول الأقل قدرة، لسبب أو آخر، غير قادرة على انخراط فعّال يحمي مصالحها، فإن حماية نفسها من آثار الصراعات الكبرى تصبح مرهونة بتحقيقها استقراراً داخلياً، يمنع إمكانية الاستثمار الخارجي بالقوة المحلية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3wpvnkkp

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"