عادي

«القوى الوسطى» تضبط الإيقاع العالمي

22:49 مساء
قراءة 4 دقائق
«القوى الوسطى» تضبط الإيقاع العالمي

كتب- المحرر السياسي:

تؤكد حركة التاريخ أن تدافع القوى فعل دائم تمليه الضرورات نتيجة تبادل الأدوار، وضعف القادرين على الفعل، أو تخليهم عن تحمّل المسؤولية، ما يستوجب البحث عن بدائل. وفي كل مرة تتخاذل فيها القوى الكبرى عن أداء المهمات التي يعول عليها القيام بها، فإنها تمنح فرصة لقوة أخرى لها تطلعاتها، وتتحين الفرصة لتطوير دورها، وبالتالي تعزيز حضورها ومصالحها في آن معاً.

من الملاحظ اليوم أن السلام والاستقرار الدوليين يتعرضان للخطر بشكل متزايد. ومرد ذلك في المقام الأول إلى التوترات بين القوى العالمية الكبرى التي نتجت إما عن تضارب مصالحها، وإما عن تراجع قوة بعضها، لأسباب داخلية وموضوعية.

يأتي ذلك في الوقت الذي تكافح معظم دول العالم من أجل مواجهة التحديات والأزمات التي تحيق بعالم تباينت مصالحها فيه، على جبهات متعددة.

لقد فتح هذا الوضع العالمي غير المستقر الباب أمام ما يمكن اعتباره «قوى وسطى» وليست كبرى، للتدخل، أو التوسط في بعض النزاعات المعقدة، وتعزيز الوحدة على الساحة الدولية.

وقد ظهر مفهوم «القوى الوسطى» خلال الحرب الباردة، لوصف الدول التي تتمتع بدرجة أقل من النفوذ على مستوى العالم، ولا تهيمن على أي منطقة بعينها. واليوم، ينمو نفوذ هذه القوى بسرعة، لأنها تمتلك الموارد والإرادة اللازمة لحل الأزمات الحالية.

دور القوى الوسطى

فقد استؤنفت، يوم الخميس الماضي، المفاوضات بين قوات الجيش السوداني والدعم السريع، والتي انطلقت في جدة في مايو/ أيار الماضي، برعاية سعودية أمريكية، ونجحت في التوصل إلى عدد من الهُدن قصيرة الأجل. كما استضافت المملكة، وهي قوة متوسطة متنامية، محادثات حول حرب أوكرانيا ضمت ممثلين من نحو 40 دولة.

وفي العام الماضي، وفّرت تركيا، وهي قوة متوسطة أخرى يقول رئيسها رجب طيب أردوغان أن هذا القرن هو قرن تركيا، منصة للمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا في بداية الصراع ونجحت في التوقيع على اتفاق تمرير الحبوب. ورغم أن هذه المحادثات لم تنجح في التوصل إلى حل مقبول للحرب في أوكرانيا لأسباب لا صلة لتركيا بها، فمن الواضح أن القوى المتوسطة ربما لا تزال تلعب دورها المهم في حل المشاكل العالمية الأكثر إلحاحاً.

وهناك عدة أسباب وراء توسع نفوذ القوى الوسطى في الآونة الأخيرة، أولها سعي هذه الدول عمداً إلى إقامة علاقات جيدة مع جميع الأطراف. فتركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنها تتعامل مع روسيا، وتحتفظ بعلاقات جيدة مع موسكو.

وتتمتع السعودية بعلاقات إيجابية مع كل من الولايات المتحدة وروسيا. كما نجحت دول مثل الهند وإندونيسيا، ودول أخرى مماثلة، في اتباع مسار وسط جديد، حيث حافظت على العلاقات مع كل من الشرق والغرب، من خلال عدم الانحياز إلى أي طرف من الأطراف المتنازعة في الصراعات الجيوسياسية.

وتندرج كازاخستان أيضاً، من حيث كونها قوة متوسطة ناشئة، ضمن هذه الفئة. وقد خدمتها سياستها الخارجية المتعددة الاتجاهات بشكل جيد لسنوات عدة. وتتمتع كازاخستان بعلاقات جيدة مع جميع جيرانها، بما في ذلك الصين وروسيا، وكذلك مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وهذا يعني أنها يمكن أن تكون جسراً سياسياً واقتصادياً بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب.

ونجحت السياسة الخارجية التي تنتهجها كازاخستان في تحويلها إلى أرض محايدة للحوار والوساطة. ففي عام 2017، بدأت باستضافة محادثات رفيعة المستوى حول الصراع السوري، وجمعت الحكومة السورية وقوى المعارضة وأصحاب المصلحة الإقليميين، مثل روسيا وإيران وتركيا، في عملية أستانا، والتي لعبت دوراً مهماً في تعزيز وقف إطلاق النار، وتسهيل المساعدات الإنسانية في سوريا.

وفي عام 2013، لعبت دوراً مهماً في تسهيل المفاوضات بين إيران ودول مجموعة 5+1 (الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا)، ما أدى إلى توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2015. كما توسطت كازاخستان أيضاً مع تركيا وروسيا عندما توترت العلاقات بين البلدين عام 2016.

وفي الآونة الأخيرة، استضافت منتدى أستانا الدولي الافتتاحي في يونيو/ حزيران من هذا العام، والذي جمع ممثلين عن القوى المتوسطة والخبراء لمناقشة سبل حل الأزمات العالمية الحالية. وقدم المنتدى رؤى حول الدور الحيوي للقوى المتوسطة في الدبلوماسية العالمية في سياق الاستقطاب المتزايد بين القوى الكبرى.

دور الوسيط

وفي نهاية المطاف، فإن السياسة الخارجية البراغماتية للقوى المتوسطة تمكنها من العمل كوسطاء موضوعيين، وهو الدور الذي لا تستطيع القوى العالمية الكبرى حالياً القيام به بسبب عقلية الكتلة والمواجهة. وتسلط أمثلة كازاخستان والمملكة العربية السعودية وتركيا، ودول أخرى، الضوء على أن السياسة الخارجية المعقولة والمنطقية قد تكون المفتاح إلى حل الأزمات العالمية بالنسبة للدول المتوسطة الحجم سياسيا.

وتظل القوى المتوسطة ملتزمة بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، بينما عززت الحرب الدائرة في أوكرانيا الانقسامات الأيديولوجية. ومع ذلك، تجد هذه القوى في ميثاق الأمم المتحدة سنداً ودليلاً مباشراً بشأن حل النزاعات، وتستفيد من مزايا، ربما غابت عن أعين القوى العظمى، منها أنها تحترم مبادئ السلامة الإقليمية، والسيادة، والاستقلال، على النحو المنصوص عليه في القانون الدولي.

وتلتزم معظم القوى المتوسطة بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتدافع عن الحوار والتجارة والتعددية والدبلوماسية. وهي مصرّة على أن تظل الأمم المتحدة المنظمة العالمية الوحيدة التي يمكنها توحيد جميع الدول معاً. لكن المشكلة التي تواجه هذه القوى تكمن في أنها غير ممثلة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

وثبت من خلال ما تم حتى الآن، أن هذه القوى تلعب دوراً إيجابياً يحظى بالقبول غالباً لدى الأطراف المتنازعة، وحتى لدى القوى الكبرى، حيث أثبتت قدرتها على المساهمة في إعادة بناء ثقافة التعددية والمشاركة الدبلوماسية في عالم مفرط الاستقطاب. ومن الممكن أن ترسخ دورها كعامل استقرار أثناء التوترات المتصاعدة، وهو أمر مطلوب بشدة في المشهد العالمي اليوم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/m5w8tn29

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"