سؤال المواطنة والكونية

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

عندما انهار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينات القرن الماضي، بشّر النظام العالمي الجديد المنتصر في الحرب الباردة بقيم جديدة وسعى إلى تكريس مفاهيم كونية لحقوق الإنسان وللمواطنة العالمية أو الكونية، وقيل وقتها إن العالم سيكون أفضل من دون الاتحاد السوفييتي، ولكن الأحداث التي جرت بعد ذلك أثبتت حجم الدعاية التي تم الترويج لها وزيف كل المفاهيم التي وقع نشرها.

بكل بساطة لم يصبح العالم أفضل حالاً رغم كل المنجز التكنولوجي الذي تحقق في العقد الأخير من القرن الماضي وفي العقدين الأولين من القرن الحالي.

صحيح أن العالم أصبح قرية صغيرة وصغيرة جداً أيضاً، ولكن السؤال الذي يطرحه فلاسفة العالم هو: هل زادت سعادة الإنسان؟ الحقيقة أن حجم البؤس والمآسي التي عاشها إنسان عصر التكنولوجيا هي بحجم ما عاناه الإنسان في عصور قديمة مجتمعة، ذلك أن الحروب والصراعات والنزاعات لم تتوقف ولم تبلغ الإنسانية سن الرشد على ما يبدو، ما دام هناك أناس يصرّون دوماً على إشعال نيران الأزمات والصراعات.

الملايين قتلوا منذ انتصار العالم الجديد وسيادة منطق العولمة وكونية المواطنة وحقوق الإنسان، والملايين هجّروا من أوطانهم، ومئات الملايين من البشر يعانون الجوع والفاقة والفقر. فهل كانت العولمة عولمة للمآسي والأحزان على طبقات واسعة من الإنسانية جمعاء؟ إن الإجابة وللأسف لا يمكن أن تكون «لا» فلم يصبح العالم أفضل دون الاتحاد السوفييتي ولم يصبح العالم أفضل بعد تدمير العراق «الدولة المارقة» في منطق سادة العالم الجدد، ولم يصبح العالم أفضل بعد تدمير أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا، ولن يكون أيضاً أفضل بعد أن تتم تصفية القضية الفلسطينية وتفريغ غزة من سكانها قتلاً أو تهجيراً.

هذا العالم المحكوم برؤية غربية قاصرة عن فهم الشعوب الأخرى وحقها في حياة كريمة وفي ثقافة خصوصية وفي هوية مختلفة هو عالم مريض وموبوء إلى الحد الذي بدأ يشكل خطراً على مستقبل البشرية جمعاء إن استمر مستقبلاً من دون أن تكون هناك توازنات دولية جدية تعدل مسار الإنسانية.

ولعل كثيراً يتعجبون من وقوف الغرب صراحة ومن دون أي مواربة مع إسرائيل في حربها المدمرة على غزة بشرياً وسياسياً وعسكرياً ومالياً وإعلامياً، ولكن الناظر في منطق هذه الحداثة الزائفة سيدرك بكل بساطة أن الأمر لا يدعو إلى أي تعجب، لأن إسرائيل هي نموذج غربي مزروع في الشرق الأوسط لغايات تم الإعلان عنها صراحة منذ تأسيسها.

هذا النموذج الغربي يرى نفسه الأرقى عرقياً وثقافياً عن بقية الشعوب، بل إنّه يرى في بقية الشعوب بأعراقها ودياناتها وثقافاتها مجرد كائنات متوحشة، لذلك يتردد على ألسنة السياسيين الغربيين في كل حرب جديدة أنها مواجهة بين «العالم المتحضر» و«التوحش». وهذه العبارة كانت كلمة السر أيضاً زمن المد الاستعماري. واستعملت هذه العبارة في حرب روسيا وأوكرانيا أيضاً ويجري استعمالها الآن في الحرب على غزة لتبرير كل ذلك القتل والدمار الذي يجري والذي هو ليس جديداً على المنطقة، فأغلب دولها مدمرة، سحقها العالم المتحضر ليقضي على «توحشها».

ويبدو أن العالم المتحضر لم يشبع بعد من دماء هؤلاء «المتوحشين» فهو من حين إلى آخر يشعل الأزمات ويتلهى بمشاهدة اللحم المفروم واللحم المشوي بأحدث آلات الحرب التي ابتكرها «المتحضرون».

لم يعد الحديث عن قيم الإخاء والكونية والتفاهم والتعايش السلمي ممكناً في عالمنا المريض هذا، والغرب المتحضر قد سقطت عنه آخر أوراق التوت التي كان يتستر بها. وهذا سيجعل الإنسانية تواجه تحديات أكثر صعوبة في المستقبل القريب لأن سبل التواصل والتقارب وإعادة بناء جسور التثاقف ستخضع كلها إلى قراءات جديدة وأكثر عمقاً، وسيكون من الصعب جداً تصديق مفاهيم تأتي من العالم المتحضر لأن أفعاله أنهت أساطير تحضره.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y4sd966r

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"