محاولات الخروج من مصيدة الدولار

22:16 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبدالعظيم محمود حنفي *

الحديث عن مستقبل الدولار لا ينقطع في العالم، وحتى في الولايات المتحدة باعتبار أن الدولار هو قاعدة ‏القيادة العالمية للولايات المتحدة، ومن ثم فإن مستقبل الدولار مرتبط ارتباطاً معقداً ‏‏بالجدال حول ‏التشظي الجيوسياسي.‏

‏ وقد ارتبط الاقتصاد العالمي بالدولار بصفته عملة احتياطية وأداة لتسوية المعاملات التجارية منذ نظام «بريتون وودز»، الذي تم تصميمه بعد الحرب العالمية الثانية، ‏وظل ‏الدولار عملة الاحتياط العالمية الأولى في معظم فترات القرن الماضي. وقد عزز مكانته عملة ‏الاحتياط العالمي المهيمنة، تصور المستثمرون الدوليون، بمن فيهم البنوك المركزية الأجنبية، بأن ‏الأسواق المالية الأمريكية ملاذ آمن، وذلك التصور قد أدى ظاهرياً إلى دفع جزء كبير من التدفقات ‏الرأسمالية الأمريكية، والتي ارتفعت بصورة حادة على مدى العقدين الماضيين.

ويعتقد الكثيرون ب‏أن هيمنة الدولار هذه قد سمحت للولايات المتحدة بأن تعيش ببذخ يفوق دخلها، وتسجل عجزاً ‏كبيراً في الحساب الجاري يموله الاقتراض من بقية العالم بأسعار زهيدة. وقد أعربت بعض الدول ‏الأخرى عن ضيقها من هذا «الامتياز الزائد» الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية التي ‏اعتادت الإنفاق دون أي قلق بشأن العجز مادام هناك ضمان بشراء ‏‏‏سندات ‏الدين الجديدة. عملة ‏العالم الأولى. ‏نتيجة لذلك في 19 يناير 2023، ارتفع مخزون الديون الفيدرالية الأمريكية ‏المستحقة 31.4 تريليون دولار ‏وهذا يعني ارتفاع الدين العام الأمريكي خمسة أضعاف ‏‏‏تقريباً ‏من نحو ٦ ‏تريليونات دولار قبل ‏‏20 عاماً. الأمر الذي جعل البلاد تعاني إلى حد بعيد أكبر ‏عجز على الإطلاق في زمن السلم ‏ليصطدم تماماً ب ‏‏«سقف الديون» التشريعي.‏ ما جعل الولايات ‏المتحدة تواجه مأزقاً تاريخياً قد يسفر ‏عن تخلف أول من نوعه عن سداد ‏الالتزامات، وخفض محتمل ‏للتصنيف الائتماني للاقتصاد ‏الأكبر على مستوى العالم، بما قد ينعكس ‏على حدوث اضطراب ‏واسع المجال للاقتصاد العالمي ‏الذي لم يكد يتعافى من تداعيات التضخم ‏العنيف.

أدت الأزمة المالية العالمية التي وقعت في الفترة من 2008- 2009 إلى تصاعد التكهنات ‏‏بشأن الزوال القريب، إن لم يكن الوشيك للدولار الأمريكي، فعلى سبيل المثال، ما حدث على هامش قمة العشرين التي عقدت ‏في مطلع إبريل عام 2009، حيث أدارت الصين نقاشاً مستفيضاً حول إمكانية ‏استبدال الدولار ‏عملة ‏رئيسية في العالم. والسبب الذي دعاهم إلى ذلك هو اقتناعهم بأن قيام الولايات المتحدة بطبع أموال كثيرة في أعقاب الأزمة المالية التي ضربتها ‏سبب آثاراً ‏‏‏‏تضخمية كبرى، وهو أمر يمثل في جوهره اتهاماً ‏‏مبطناً ‏للولايات المتحدة بإساءة استخدام وضعية الدولار عملة عالمية رئيسية.

واقترح الرئيس ‏الصيني (آنذاك) هو جيناتو د اخل ‏‏مجموعة ‏العشرين، استبدال الدولار عملة ‏‏عالمية ‏رئيسية.‏ كما اقترح محافظ البنك المركزي الصيني في ‏الرابع ‏والعشرين من مارس 2009 أن يتم ‏تخصيص حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي، ‏وهي عملة ‏شبيهة كان قد تم ابتداعها عام ‏‏1969 لتصبح العملة العالمية الرئيسية لحفظ ‏احتياطي النقد الأجنبي ‏بدلاً عن الدولار الأمريكي. وهكذا سعت الصين إلى الترويج لليوان ‏الصيني ليصبح ‏عملة ‏‏عالمية من خلال إقناع شركائها التجاريين بالدفع بواسطة اليوان. ‏

ولكن الولايات المتحدة أخذت تؤكد موثوقية التزامات ديونها منطلقة من أن لديها ‏أكبر ‏‏اقتصاد في العالم وناتجها المحلي الإجمالي أكبر من البلدان الأخرى، أي أنه لا يوجد أي ‏خطر ‏‏عملياً. بمعنى آخر ستكون الولايات المتحدة قادرة في كل الأحوال على تسوية ديونها مع ‏حاملي ‏‏سندات الخزانة الخاصة، وهذا ما أعلنته لجميع حاملي الأوراق المالية.‏ لم يصدق الجميع ‏ذلك ‏بالطبع. حيث أرسلت الصين مثلاً وفداً رسمياً خلال أزمة عام 2008 من ‏أجل الحصول على ‏‏ضمانات بإعادة 1.3 تريليون دولار. قدمت واشنطن الضمانات، ومع ذلك ‏سحبت الصين أكثر من ‏‏‏400 مليار دولار من السندات. ‏ ‏

وشهدت الفترة الأخيرة عدداً من العوامل التي أضعفت الأسس التي أسهمت في ‏‏‏الوضعية ‏المتميزة ‏للدولار.

وترى تحليلات أن أحد هذه العوامل هو الحرب الأوكرانية، وإفراط الولايات المتحدة في استعمال العقوبات الاقتصادية. ‏حيث قامت فيها الولايات المتحدة باستخدام وضعيتها ‏‏‏‏‏الدولارية سلاحاً ضد روسيا، فجمدت احتياطاتها النقدية في البنوك الأمريكية، وقامت بطردها من ‏‏‏‏‏نظام التسويات المالية العابرة للحدود، والمعروف باسم «سويفت‏» هذه السياسات جعلت العديد من ‏دول العالم تخشى أن تتعرض لنفس العقوبات المالية لو دخلت في ‏‏‏‏حالة عداء مع الولايات المتحدة، ‏كما أن تحالف الدول الغربية مع الولايات المتحدة في هذه ‏‏‏‏العقوبات جعل دول العالم تبحث عن ‏بديل ليس فقط للدولار، لكن أيضاً للعملات الغربية الأخرى. ‏كما أسهمت المواجهة الاقتصادية ‏الأمريكية للصين وفرض عقوبات عليها وتبني إجراءات لفك ‏‏‏‏الارتباط الاقتصادي بها في قيام ‏الصين هي الأخرى بتبني إجراءات تستهدف فك ارتباطها بالدولار ‏‏‏‏الأمريكي.

علاوة على الزيادة ‏الملحوظة للتأثير الصيني في الاقتصاد العالمي ‏بعد أن استفادت الصين ‏كثيراً بعد أن صارت عملتها عملة لسداد المعاملات التجارية في ‏‏جنوب شرق آسيا، كما أن الصين ‏‏تملك أكبر احتياطي نقدي ‏في العالم وقد عقدت عدة صفقات للتبادل المالي مع الكثير من الدول حول العالم مثل كوريا ‏‏وإندونيسيا وهونغ كونغ ‏والأرجنتين وغيرها مما وسع من دائرة نفوذ اليوان.‏

ولكن يظل التطور الأكبر هو إعلان مجموعة دول البريكس، توسيع عضويتها بدعوة كل من السعودية ومصر والإمارات ‏والأرجنتين ‏وإيران وإثيوبيا للانضمام إلى المجموعة في استجابة لدعوات تسريع إجراءات توسيع ‏المجموعة ‏وتعزيز دورها في العالم. وقيامها بمناقشة تبني عملة موحدة للتعامل فيما بينها.

ترى تحليلات أن الهدف ‏الأبرز فيما يبدو هو الحد من هيمنة الدولار من خلال بدء الإقراض بعملتي جنوب إفريقيا ‏‏والبرازيل من خلال بنك التنمية الجديد التابع للمجموعة، ومن خلال التجارة بالعملات المحلية.

وتتفق معظم التحليلات للتطورات السابقة على أنه لن يكون لها تأثير في وضعية الدولار في الأمد القصير، حيث لا توجد في ‏الأفق عملة واحدة يمكن أن تحل محل الدولار، وكما تم بناء نظام الدولار ‏‏‏عبر عدة عقود، فإن ‏تفكيكه لن يتم بين يوم وليلة، وسوف يشهد مقاومة ضارية من الولايات ‏‏‏المتحدة. ولكن المؤكد أن سياسات فك الارتباط بالدولار التي أصبحت تتبناها العديد من دول العالم هي أشبه ب«العاصفة الكاملة» التي تتكون حالياً، وستكون لها في المستقبل آثار ملموسة على الاقتصاد ‏‏‏‏الأمريكي والاقتصاد العالمي‏.

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3k55u98n

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"