نحو اتحاد أوروبي قوي

21:57 مساء
قراءة 4 دقائق

ماركوس باير*

خلقت الأزمات الدائمة للسنوات الخمس الماضية، وما رافقها من توترات جيوسياسية وعالم أكثر تشرذماً وأقل استعداداً لاتباع النموذج التنظيمي للاتحاد الأوروبي ظروفاً ملائمة لفوضى تهدد جميع مفاصل المنطقة. فهل سيظل الاتحاد الأوروبي مرساة عالمية للسلام والازدهار والأمن والاستقرار في السنوات المقبلة؟

سعياً وراء الحفاظ على ازدهاره واستقراره، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تخفيف العبء التنظيمي الذي تتحمله الشركات، ووضع اللمسات الأخيرة على المزيد من الاتفاقيات التجارية، وتحويل الصفقات الخضراء إلى استراتيجيات نمو في الفصل التشريعي المقبل.

ومن إحدى الطرق المهمة لمواجهة هذه التحديات أن يضمن الاتحاد الأوروبي قدرة شركاته على استمرار المنافسة على المستوى العالمي. فلن يتسنى له المحافظة على مكانته دولياً ومحلياً، والتحلي بالمرونة والأمان، وصياغة السياسات العالمية، وتحقيق طموحاته البيئية والاجتماعية، إلا من خلال تعزيز قوته الاقتصادية.

اليوم، وعندما ننظر إلى الوضع الحالي لاقتصاد الاتحاد الأوروبي يتضح جلياً حجم العمل الذي يتعين علينا القيام به، خصوصاً إذا ما لاحظنا تراجع الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة في السنوات الأخيرة مقارنة بنظيره في الولايات المتحدة. فبعد أن كان اقتصاد الاتحاد الأوروبي أكبر بنسبة 4.5% من اقتصاد الولايات المتحدة عام 2008 تخلّف بنسبة 5.3% وراءه بحلول عام 2022.

وتحكي أرقام الاستثمار الأجنبي المباشر لدينا قصصاً مماثلة، إذ إنه بين عامي 2019 و2021 انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر في الاتحاد الأوروبي بمقدار الثلثين، في مقابل حدوث العكس على الجانب الآخر من الأطلسي. ولا بد من معالجة تراجع جاذبية الاستثمار في أوروبا على وجه السرعة. كما يجب، بعد الانتخابات الأوروبية، على مؤسسات الكتلة تحقيق التوازن الصحيح بين حماية الأمن الاقتصادي وتحقيق التحولات الخضراء والرقمية، مع ضمان قدرة الأعمال على المنافسة على الساحة الدولية.

في غضون ذلك، يشكل الاتحاد الأوروبي 6% فقط من سكان العالم، ومن المتوقع تحقيق 85% من النمو الاقتصادي العالمي في السنوات المقبلة خارجه. وهذا يجعل من الضروري بالنسبة لنا مواصلة وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاقيات التجارية التي توفر الوصول الآمن والسلس إلى أسواق جديدة وفرص استثمارية مفتوحة للشركات الأوروبية، التي ستصبح في المقابل ذات أهمية جيواستراتيجية كبيرة.

وسوف تحتاج أوروبا أيضاً إلى إيجاد السبل للتعامل مع كافة الشركاء التجاريين، وليس فقط مع أولئك الذين تعتبرهم متشابهين في التفكير. ففي ظل المشهد السياسي والاقتصادي المتغير والتقلبات المستمرة، ليس من الضرورة أن يكون الشريك ذو التفكير المماثل اليوم موجوداً معنا على ذات المركب غداً. لكن في جميع الأحوال، يجب أن يكون التعاون متماشياً مع قيم الاتحاد، ويعكس احتياجات الشركاء المحتملين، ويجمع بين اتفاقيات التجارة والاستثمار، وشراكات المواد الخام المهمة، وبناء القدرات وحوافز التنمية.

ولا بد أن يكون التركيز الرئيسي الثاني للدورة الانتخابية المقبلة على الحد من العبء التنظيمي الذي يثقل كاهل الشركات الأوروبية حالياً، وخاصة تلك الصغيرة والمتوسطة، فقد ازداد هذا العبء بشكل كبير من عام 2017 إلى عام 2022، حيث أصدر المشرع الأوروبي ما مجموعه 850 التزاماً تنظيمياً جديداً موجهاً نحو الشركات، وهو ما يمثل أكثر من 5000 صفحة من التشريعات. علاوة على ذلك، تعرّضت عملية تطوير القطاعات الحاسمة ذات التوجه المستقبلي في أوروبا، مثل التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، للانتكاسة بسبب إجراءات الموافقة المفرطة التعقيد واللوائح التنظيمية المجحفة.

وفي الفترة من عام 2024 إلى عام 2029، يتعين على المؤسسات الأوروبية والدول الأعضاء عكس هذا الاتجاه وتقليل تلك العقبات التي تحد من استثمار وإنتاج وتسويق الإبداع في عموم أوروبا. ولا بد أن يكون هذا مصحوباً بوقف المراجعات غير الضرورية لقواعد الاتحاد الأوروبي القائمة، وتحديد القدرة التنافسية لها ولجميع القواعد التنظيمية الجديدة.

وأخيراً، يتعين علينا أن نحول الصفقات الخضراء إلى استراتيجيات نمو حقيقية في الاتحاد الأوروبي، وذلك على اعتبار أن الشركات الأوروبية ملتزمة بشكل كامل بتخضير اقتصادنا وتحقيق أهداف الاتحاد المتعلقة بالحياد المناخي، ولكن يجب أن يكون هذا مصحوباً باستراتيجية صناعية حقيقية.

ستحتاج هذه الاستراتيجية إلى معالجة الفرق في تكلفة الطاقة بين الاتحاد الأوروبي ومنافسينا الرئيسيين والاختناقات الحرجة مثل إجراءات التصاريح المعقدة والطويلة. ويجب عليها أيضاً الذهاب إلى ما هو أبعد من قانون الصناعة الصافية الصفر، وأن تسهل الاستثمار في نطاق أوسع من القطاعات، لأن إزالة الكربون من اقتصادنا سوف تتطلب استثمارات تحويلية من جميع أصحاب المصلحة وسلاسل القيمة الخاصة بهم. ويشكل تعزيز الوصول إلى التمويل عاملاً أساسياً آخر لتحسين ظروف الاستثمار في الاتحاد الأوروبي، سواء من الدعم الحكومي المقدم للشركات في مراحلها الانتقالية، أو تدعيم البنية الأساسية اللازمة، مروراً بتشجيع الإبداع التكنولوجي. ومع ذلك، يجب أن يكون ذلك موجهاً بشكل جيد وضمن آلية زمنية محددة، وأن يتم رصده بعناية لتجنب تشوهات المنافسة.

في الوقت الذي يواجه فيه النظام المتعدد الأطراف والقائم على القواعد تحديات عصيبة، وينقسم العالم على نفسه بنحو متزايد تبرز أهمية محافظة الاتحاد الأوروبي على سمعته زعيماً إيجابياً. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تطبيق هذه الإجراءات العاجلة والضرورية، فالشركات الأوروبية الأقوى تجعل الاتحاد الأوروبي أقوى.

* مدير عام جمعية الأعمال الأوروبية

«بزنس يوروب»(يوروآكتيف)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2z3yrwds

عن الكاتب

مدير عام جمعية الأعمال الأوروبية
«بزنس يوروب»(يوروآكتيف)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"