تجليات جمالية

00:50 صباحا
قراءة 3 دقائق

يُشكّل شعار «تجليات» الذي اختارته دائرة الثقافة في الشارقة للدورة الخامسة والعشرين من مهرجان الفنون الإسلامية التي انطلقت قبل أيام، استمراراً لجملة الشعارات التي اختارتها للدورات السابقة التي تدور جميعها حول مفاهيم الفنون الإسلامية والمعاني العميقة الكامنة خلف إبداعاتها، ومن تلك الشعارات على سبيل المثال: «فنون، أقف، بنيان، مدى، تدرجات» إلى آخره، وقد شكّلت تلك الشعارات على مدى الدورات الماضية اقتراحات حرة لتحفيز رؤى الفنانين في اتجاهين، يتعلق أولهما بمحاولة فهم ملمح من ملامح الفنون الإسلامية، كما استقرت عبر العصور الإسلامية الطويلة، ويتعلق الثاني باستلهام ذلك الملمح في عمل معاصر يتناصّ مع الأعمال الفنية الإسلامية التقليدية، ويدخل معها في حوار حضاري فني حديث.

هذا المسعى التحفيزي جعل من المهرجان على مدى ربع قرن ورشة مستمرة لتطوير الفنون الإسلامية، وخلق تأثير مباشر لها في إبداعات الفنانين المعاصرين من مختلف بلدان العالم ومن كل الثقافات، وكذلك للترويج لها في العالم والتعريف بها على أوسع مدى، واستقطاب الفنانين المسلمين وغير المسلمين للتعاطي بها، وهي الهدف الذي كان صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، يسعى إليه منذ أن وجّه بتأسيس هذا المهرجان عام 1998.

يشير شعار «تجليات» إلى جملة من المفاهيم المؤسسة للرؤية الإسلامية، فكرياً أولاً، ثم فنياً بالاستتباع، فالتجلي من الناحية الفكرية، وبشكل خاص في العقيدة هو التعرف إلى الخالق من خلال المخلوقات، حيث يتعرف المسلم إلى ربه من خلال تأمل بديع صنعه في هذا الكون المنتظم المتناقض، المنسجم المتضاد، المتنوع المتحد، الدقيق الهائل، المتوازن توازناً دقيقاً يجعل ذلك التقابل بين ثنائياته تقابلاً محسوباً، بحيث لا يطغى بعضها على بعض، وتحكمه قوانين دقيقة تحفظ له كل تلك الأوصاف، وتجعل الحياة فيه ممكنة مستمرة، ما يدل على خالقه العظيم، ذلك هو مفهوم التجلي عقدياً، ومن الناحية الجمالية فإن كل مخلوق، من الذرة إلى المجرة، هو مخلوق جميل بما يتألف فيه من نظام وانسجام داخلي، وبما يربطه مع العالم من نظام خارجي، وهذه الرؤية الجمالية هي التي حركت مخيلة وعقل الفنان المسلم على مر العصور من أجل مقاربتها فنياً، والتعبير عنها في آثاره المختلفة، كالخط والزخرفة والعمارة والنمنمة والفنون الاستعراضية وغيرها، فليس الخط بانسيابه ومرونته، وانفصاله واتصاله، وتركيباته، سوى تجلٍّ أصيل لما أودعه الله في الكون من انسجام ومرونة واتصال وانقطاع وتراكيب كثيرة، وليست هياكل العمارة وأقواسها ومقرنصاتها إلا بعض تلك التجليات، وليست الدائرة في القباب والأقواس والحروف والحركات الصوفية إلا تجلياً لاستدارة كبيرة وما تحت ذلك من استدارات كثيرة، وليست الزخارف النباتية والهندسية إلا استلهاماً لتجليات الأعراض المتحيزة في الزمان والمكان، بأشكالها وألوانها المختلفة.

تلك التجليات الكثيرة في الفنون الإسلامية هي ما اقترحته دورة هذا العام من المهرجان على الفنانين المشاركين فيها، وقد استجاب الفنانون لهذا الاقتراح مستلهمين تلك التجليات، ففي عمل بارز بعنوان «مأوى» يقدم استديو توي من المملكة المتحدة شكل قبة دائرية مضلعة بأقواس منتظمة ومزخرفة بزخارف تستلهم زخرفة المشربيات، وهي مقصوصة باستخدام الحاسب الآلي، لكن شكل القبة مخرّم بفجوات كبيرة في عدة أماكن منه إشارة إلى عدم الاكتمال، وإلى أن الكمال هو لله وحده.

وفي عمله الفني «تمدد الزمن» يستلهم الفنان فرانسيسكو مراندا مفاهيم التجلي والوضوح والوحدة الموجودة في الفنون الإسلامية، من خلال تجهيز تتفاعل فيه عدة وسائط فنية، فهناك منحوتات خشبية ذات عقد تستلهم الزخارف الخشبية في العمارة الإسلامية، ومرآة ذهبية وألوان أكرليك ومصابيح، بحيث يعكس انعاكس الضوء على القطع الزخرفية والألوان، وفي المرآة، أشكالاً من التجليات المختلفة لمعاني الوحدة والوضوح.

وتستمر الأعمال -مجمل أعمال المهرجان- على هذا المنوال، في استدعاء متجدد لتأمل جماليات الفنون الإسلامية وتجلياتها المختلفة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3v6suy7y

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"