في نقد أوهامنا الغربية

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

تستدعي متابعة المواقف الغربية من مجريات الأحداث في غزة، القيام بوقفة نقدية، لا تختص فقط بالجانب السياسي من تلك المواقف؛ بل أيضاً بعموم الجوانب الأخرى، التي لا تنفصل عن السياسة، أو ذات صلة وثيقة بها؛ إذ لا يمكن القيام بفصل تعسفي بين الفكر والسياسة والأخلاق، عبر ترديد مقولة انفصال المصالح عن الأخلاق في عالم السياسات الدولية.

لقد جرى تعريف الغرب في الكثير من الأدبيات العربية الفكرية والسياسية بأنه عالم الحريات، لكن اتخاذها صيغاً إطلاقية تعميمية، يجعلها موضع شك نقدي، قياساً للواقع العياني للغرب نفسه؛ إذ إنها رفعت الغرب إلى رتبة المقدس.

إن أحد مكامن الخلل في العقل العربي المنبهر بالتجربة الغربية، هي تخليه عن الجدل، واعتباره التاريخ خطاً تقدمياً، بينما يعلمنا درس الجدل العظيم أن التاريخ يعرف الانتكاس كما يعرف التقدم، وأن البنى تحمل في داخلها تناقضاتها، وأن عدم تجاوز تلك التناقضات، بمعنى تخطيها إيجاباً، هو مقدمة لانحطاط تلك البنى، والانقلاب إلى تقيضها، ومن دون الجدل، وروح الجدل، فإن الفكر النقدي يصبح حالة انبهار بالتجربة إلى درجة العمى.

لقد تابعنا خلال الشهرين الماضيين، واحدة من فصول المأساة والمهزلة والانفصام في الفكر السياسي الغربي؛ إذ وقفت دول غربية عظمى ضد التصويت على مشروع قرار بوقف إطلاق النار في غزة، وكأنها بذلك تقول إن استمرار قصف وقتل المدنيين العزل في غزة أمر مشروع أخلاقياً، وأن الحرب قيمة أهم وأعظم من السلم، وأن موت الأطفال الفلسطينيين «غير البيض» أمر مقبول لتحقيق مصالح وأمن إسرائيل «البيضاء»، وهذه المواقف باللغة الفكرية والقانونية المنصوص عليها في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1948، و«اتفاقية حقوق الطفل» المصادق عليها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1989، هي مواقف خارجة ومتناقضة عن المنظومة العالمية المؤسسة لحقوق الإنسان، وهي الحقوق ذاتها التي شنّت دول غربية تحت رايتها عدداً من الحروب في العقود الأخيرة.

التعبيرات السياسية الرسمية الغربية تجاه العدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة، لم تكن التعبير الوحيد عن ظاهرة التناقض مع المنظومة الدولية لحقوق الإنسان؛ بل ثمة ظاهرة لا تقل وضوحاً في تناقضها مع الحريات، وهي التعتيم على الأصوات المضادة للحرب، ما يجعل من «حرية التعبير» حالة انتقائية، ليس فقط بما يخص قضايا سياسية خارجية صرف؛ بل بما يخص المواطن الغربي ذاته الذي يقف على تضاد مع مواقف حكوماته الرسمية.

أيضاً، كانت المناداة بفصل السياسي عن الثقافي والمعرفي، واحدة من مطالبات مفكرين ومثقفين عرب، استناداً إلى الفكر النقدي الغربي، لكننا شهدنا بعد الحرب في أوكرانيا أنه تم وضع السياسي والثقافي في سلّة واحدة، مع اتخاذ العديد من المؤسسات الأكاديمية والثقافية الغربية إجراءات منع لفعاليات ثقافية روسية، أو إلغاء بعض المساقات الدراسية المختصة بالأدب الروسي.

إن التمسك بالفكر الجدلي النقدي، يقودنا بالضرورة إلى التخلي عن الانبهار، وقراءة التجارب في سياقاتها وتناقضاتها، وفي انتكاساتها، كما في تقدمها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5n88c8vc

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"