عالم جديد «سعيد»

00:01 صباحا
قراءة 4 دقائق

لعل أبرز ما يستوقف المتابع في العام الماضي، هو بداية دخول الذكاء الاصطناعي عالم الثقافة، ولقد خصصنا في الخليج الثقافي خلال هذا العام ملفين حول هذا الموضوع، سأل فيهما الزميل علاء الدين محمود تطبيق «شات جي بي تي» عدة أسئلة تتعلق بقدرته على كتابة قصة وحوار مسرحي، وقراءة نقدية حول عمل أدبي ما، جاءت الإجابات بدائية، ولكننا لا يجب أن ننسى أننا لا نزال في بدايات هذا العالم، وأتذكر أنني قرأت قبل عدة سنوات من يتحدث عن الرواية الآلية، التي سيكتبها «الروبوت» في المستقبل، ساعتها ابتسمت باستغراب ولم أصدق.

الذكاء الاصطناعي حلقة طويلة في مرحلة تحولات ثقافية، لم يشهدها البشر من قبل، بدأت مع التكنولوجيا فائقة الحداثة، شبكة الإنترنت ومتلازماتها: تغول عصر الصورة، التطبيقات المختلفة، مواقع التواصل، مع ملاحظة أن هذه المرحلة لا تمتد لأكثر من عقدين، أي علينا تخيل شكل واقعنا الذي سيكون مفارقاً لكل ما نراه الآن بعد عقدين آخرين، وما نشاهده اليوم من أزمة تتعلق بالثقافة بمفاصلها كافة، يرتبط في جانب كبير منه بتجليات عالم التكنولوجيا.

الأزمة الثقافية التي نستشعرها جميعاً ترتبط أولاً بغياب الفكر، فالفكر قاطرة الثقافة ورافعتها، فمنذ أكثر من عقد تكاد تغيب عن ساحتنا الثقافية تلك الأفكار الجديدة التي تتعلق بقضايا حيوية، وتحرك المياه الراكدة، وذلك في مختلف المجالات، وهنا لن نعود إلى الماضي أو مختلف حقب تألق الثقافة العربية في العصر الحديث، لنتذكر فقط حقبة التسعينات من القرن الماضي وربما بدايات الألفية، كانت هناك أفكار وازنة تثير الجدل وتدفع العقل إلى التفكير.

عشرات الأسماء في مختلف الأقطار العربية من الأنصاري في البحرين إلى الغذامي في السعودية إلى حسن حنفي في مصر إلى جورج طرابيشي في سوريا إلى الجابري في المغرب، وغيرهم العشرات، طرحوا مقولات ثرية في كتب ودراسات تتعلق بالعقل والحداثة والتنوير والتراث واللغة والنقد الأدبي.. إلخ.

كانوا آخر فصائل نخبة ثقافية أثرت بقوة في مختلف الحقول، رحل معظمهم، ولكن الوفاة ليست السبب في تراجع الفكر، السبب في رأيي يكمن في التكنولوجيا الحديثة، أو صعود ما أطلق عليه يوماً الراحل جلال أمين «عصر الجماهير الغفيرة»، فتلك الجماهير تصنع الآن ثقافتها الخاصة وتختار نخبتها الخاصة أيضاً، بعضهم يرى أن المؤثر وريث المثقف، ولأول مرة ستفرض الجماهير الغفيرة ذائقتها، أي سينقلب المطبوع، إذا استخدمنا لغة الجبرتي وهو يصف النوازل والكوارث، أي أن الجمهور سيؤثر وبقوة في النخبة، هذه النخبة التي تتعرض الآن للتلاشي رويداً رويداً بفعل الوفاة وبفعل كتابات تنظيرية حول موت الكاتب والمؤلف والمثقف والناقد.. إلخ، ونتيجة لعدم قدرة ما تبقى من نخبنا الثقافية على التعامل مع التكنولوجيا فائقة الحداثة، وبفعل إحباط بعض الأشخاص من تلك الأجواء وانسحابهم طوعاً من الساحة.

في تلك الفترة ستصعد مقولة «زمن الرواية»، وستدعمها ثقافة مواقع التواصل، والتي لا تعرف إلا الحكي، فعندما يتعطل العقل يبدأ الحكي، وسترتهن الساحة في معظمها للرواية، وستروج مقولات مهرجانية حول هذا الشكل الأدبي لم تفحص أو تناقش بجدية، ولم يقم أحدهم بمراجعة هذا السيل الروائي العرم الذي نشهده منذ أكثر من عقدين، ولم يقل أحد إن ظاهرة صعود الرواية سلبية وليست إضافة للثقافة العربية، وإن بها ظلاً من ثقافة مواقع التواصل، وإنها ابنة الجماهير الغفيرة، وإن عشرات المئات من الروايات لم تنتج اسماً بالإمكان وضعه مع عمالقة الرواية العربية الذين كتبوا في «زمن الفكر»، ولم يلتفت أحد إلى أن ثقافة التكنولوجيا الحديثة لا تهتم أو ليس من أولوياتها إنتاج نخب أو أسماء أو قامات ثقافية، فآليات عملها تقوم بعكس ذلك على طول الخط، قد يكون هناك روائي مميز من الأجيال الجديدة، ولكن التأصيل لشخص أو فكرة تبقى أو قضية موزونة، ضدُّ قيم وطبيعة تلك التكنولوجيا.

ما حدث في الرواية، الابنة المدللة لمناخ العصر بآلياته وطبيعته اللحظية العصية على البقاء، تكرر بصورة أكثر مأساوية في الشعر واللغة العربية، بتنا نسمع عن القصيدة الومضة، وعن لغة الشباب «العصرية» المركبة، وعن تطبيقات إلكترونية لتعليم اللغة العربية. وكما في الرواية هناك شعراء يستحقون الإبراز، وهناك من يرعى اللغة عن حق ويهتم بها، ولكننا سنعود إلى القول بأن طبيعة عصرنا لا تبرز أو تصعد إلا بكل ما ترضى عنه ثقافة «الجماهير الغفيرة»، أي تسيد الأقل جودة، والأخطر العجز في وسط هذا الزحام عن إنتاج رمز ومرجعية، فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق، وهنا الخطورة.

نعود إلى الحلقة الأحدث في مناخ عصرنا، الذكاء الاصطناعي، فوفق قانون تسارع التكنولوجيا، علينا توقع ثقافة جديدة تماماً، فربما رأينا بعد سنوات قليلة، «الروبوت» يكتب رواية أو يلقي الشعر في أمسية حاشدة، وإذا كانت التكنولوجيا الحديثة صعدت بثقافة ونخب جديدة إلى الواجهة، أي أن تأثيرها في الثقافة الجادة كان كابوسياً، فإن الذكاء الاصطناعي سيدخلنا إلى عالم جديد «سعيد»، وفي ظل غياب الفكر، لن نعرف كيف سنواجه هذا العالم.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/266x25b3

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"